فصل: تفسير الآيات رقم (26- 27)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ***


سورة آل عمران

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏الم ‏(‏1‏)‏ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ‏(‏2‏)‏ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ ‏(‏3‏)‏ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ‏(‏4‏)‏‏}‏

قد تقدم ذكر اختلاف العلماء في الحروف التي في أوائل السور في أول سورة البقرة، ومن حيث جاء في هذه السورة ‏{‏الله لا أله إلا هو الحي القيوم‏}‏ جملة قائمة بنفسها فتتصور تلك الأقوال كلها في ‏{‏الم‏}‏ في هذه السورة، وذهب الجرجاني في النظم إلى أن أحسن الأقوال هنا أن يكون ‏{‏الم‏}‏ إشارة إلى حروف المعجم كأنه يقول‏:‏ هذه الحروف كتابك أو نحو هذا، ويدل قوله ‏{‏الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب‏}‏ على ما ترك ذكره مما هو خبر عن الحروف قال‏:‏ وذلك في نظمه مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 21‏]‏ وترك الجواب لدلالة قوله‏:‏ ‏{‏فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 21‏]‏ تقديره‏:‏ كمن قسا قلبه‏.‏ ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

فَلاَ تَدْفِنُوني إنَّ دَفْنِي مُحَرَّمٌ *** عَلَيْكُمْ، ولكنْ خامري أمَّ عامِرِ

قال‏:‏ تقديره ولكن اتركوني للتي يقال لها خامري أم عامر‏.‏

قال القاضي رحمه الله‏:‏ يحسن في هذا القول أن يكون ‏{‏نزل‏}‏ خبر قوله ‏{‏الله‏}‏ حتى يرتبط الكلام إلى هذا المعنى‏.‏ وهذا الذي ذكره القاضي الجرجاني فيه نظر لأن مثله ليست صحيحة الشبه بالمعنى الذي نحا إليه وما قاله في الآية محتمل ولكن الأبرع في نظم الآية أن يكون ‏{‏الم‏}‏ لا يضم ما بعدها إلى نفسها في المعنى وأن يكون ‏{‏الله لا إله إلا هو الحي القيوم‏}‏ كلاماً مبتدأ جزماً جملة رادة على نصارى نجران الذين وفدوا على رسول الله عليه السلام فحاجوه في عيسى ابن مريم وقالوا‏:‏ إنه الله وذلك أن ابن إسحاق والربيع وغيرهما ممن ذكر السير رووا أن وفد نجران قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم نصارى ستون راكباً فيهم من أشرافهم أربعة عشر رجلاً في الأربعة عشر ثلاثة نفر إليه يرجع أمرهم، والعاقب أمير القوم وذو رأيهم واسمه عبد المسيح، والسيد ثمالهم وصاحب مجتمعهم واسمه الأيهم، وأبو حارثة بن علقمة أسد بني بكر بن وائل أسقفهم وعالمهم فدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد إثر صلاة العصر عليهم جبب وأردية فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما رأينا وفداً مثلهم جمالاً وجلالة، وحانت صلاتهم فقاموا فصلوا في مسجد رسول الله عليه السلام إلى المشرق فقال النبي عليه السلام‏:‏ دعوهم ثم أقاموا بالمدينة أياماً يناظرون رسول الله عليه السلام في عيسى ويزعمون أنه الله إلى غير ذلك من أقوال بشعة مضطربة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يرد عليهم بالبراهين الساطعة وهم لا يبصرون، ونزل فيهم صدر هذه السورة إلى نيف وثمانين آية إلى أن آل أمرهم إلى أن دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الابتهال وسيأتي تفسير ذلك‏.‏

وقرأ السبعة «المَ الله» بفتح الميم والألف ساقطة، وروي عن عاصم أنه سكن الميم ثم قطع الألف، روى الأولى التي هي كالجماعة حفص وروى الثانية أبو بكر، وذكرها الفراء عن عاصم، وقرأ أبو جعفر الرؤاسي وأبو حيوة بكسر الميم للالتقاء وذلك رديء لأن الياء تمنع ذلك والصواب الفتح قراءة جمهور الناس‏.‏ قال أبو علي‏:‏ حروف التهجي مبنية على الوقف فالميم ساكنة واللام ساكنة فحركت الميم بالفتح كما حركت النون في قولك‏:‏ «من الله ومنَ المسلمين» إلى غير ذلك‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ومن قال بأن حركة الهمزة ألقيت على الميم فذلك ضعيف لإجماعهم على أن الألف الموصولة في التعريف تسقط في الوصل فيما يسقط فلا تلقى حركته، قاله أبو علي، وقد تقدم تفسير قوله‏:‏ ‏{‏الحي القيوم‏}‏ في آية الكرسي، والآية هنالك إخبار لجميع الناس، وكررت هنا إخباراً لحجج هؤلاء النصارى، وللرد عليهم أن هذه الصفات لا يمكنهم ادعاؤها لعيسى عليه السلام لأنهم إذ يقولون إنه صلب فذلك موت في معتقدهم لا محاله إذ من البين أنه ليس بقيوم، وقرأ جمهور القراء «القيوم» وزنه فيعول، وقرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعبد الله بن مسعود وعلقمة بن قيس «القيام» وزنه- فيعال- وروي عن علقمة أيضاً أنه قرأ «القيم» وزنه فيعل، وهذا كله من قام بالأمر يقوم به إذا اضطلع بحفظه وبجميع ما يحتاج إليه في وجوده، فالله تعالى القيام على كل شيء بما ينبغي له أو فيه أو عليه‏.‏

وتنزيل الله الكتاب بواسطة الملك جبريل عليه السلام، و‏{‏الكتاب‏}‏ في هذا الموضع القرآن باتفاق من المفسرين، وقرأ جمهور الناس «نزَّل عليك» بشد الزاي «الكتابَ» بنصب الباء، وقرأ إبراهيم النخعي «نزَل عليك الكتابُ» بتخفيف الزاي ورفع الباء، وهذه الآية تقتضي أن قوله ‏{‏الله لا إله إلا هو الحي القيوم‏}‏ جملة مستقلة منحازة، وقوله ‏{‏بالحق‏}‏ يحتمل معنيين‏:‏ إحداهما أن يكون المعنى ضمن الحقائق من خيره وأمره ونهيه ومواعظه، فالباء على حدها في قوله‏:‏ جاءني كتاب بخبر كذا وكذا أي ذلك الخبر مقتص فيه، والثاني‏:‏ أن يكون المعنى أنه نزل الكتاب باستحقاق أن ينزل لما فيه من المصلحة الشاملة وليس ذلك على أنه واجب على الله تعالى أن يفعله، فالباء في هذا المعنى على حدها في قوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام ‏{‏سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 116‏]‏ وقال محمد بن جعفر بن الزبير‏:‏ معنى قوله‏:‏ ‏{‏بالحق‏}‏ أي مما أختلف فيه أهل الكتاب واضطرب فيه هؤلاء النصارى الوافدون، وهذا داخل في المعنى الأول، و‏{‏مصدقاً‏}‏ حال مؤكدة وهي راتبة غير منتقلة لأنه لا يمكن أن يكون غير مصدق لما بين يديه من كتاب الله فهو كقول ابن دارة‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

أنا ابْنُ دارةَ معروفاً بها نسبي *** وَهَلْ بِدَارَة يا للناسِ مِنْ عارِ‏؟‏

وما بين يديه هي التوراة والإنجيل وسائر كتب الله التي تلقيت من شرعنا كالزبور والصحف، وما بين اليد في هذه الحوادث هو المتقدم من الزمن‏.‏

و ‏{‏التوراة والإنجيل‏}‏ اسمان أصلهما عبراني لكن النحاة وأهل اللسان حملوها على الاشتقاق العربي فقالوا في التوراة‏:‏ إنها من ورى الزناد يري إذا قدح وظهرت ناره يقال أوريته فوري، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فالموريات‏}‏ ‏[‏العاديات‏:‏ 2‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أفرأيتم النار التي تورون‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 70‏]‏ قال أبو علي، فأما قولهم‏:‏ وريت بك زنادي على وزن، فعلت فزعم أبو عثمان أنه استعمل في هذا الكلام فقط ولم يجاوز به غيره، وتوراة عند الخليل وسيبويه وسائر البصريين فوعلة كحوقلة وورية قلبت الواو الأولى تاء كما قلبت في تولج وأصله وولج من‏:‏ ولجت، وحكى الزجاج عن بعض الكوفيين‏:‏ أن توراة أصلها تفعلة بفتح العين، من‏:‏ وريت بك زنادي، وإنما ينبغي أن تكون من‏:‏ أوريت قال فهي تورية، وقال بعضهم‏:‏ يصلح أن تكون تفعلة بكسر العين مثل توصية ثم ردت إلى تفعلة بفتح العين، قال الزجاج وكأنه يجيز ي توصية توصأة وذلك غير مسموع، وعلى كل قول فالياء لما انفتح ما قبلها وتحركت هي انقلبت ألفاً فقيل توراة، ورجح أبو علي قول البصريين وضعفه غيره، وقرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم «التورَاة» مفتوحة الراء، وكان حمزة ونافع يلفظان بالراء بين اللفظين بين الفتح والكسر وكذلك فعلا في قوله ‏{‏من الأبرار‏}‏ و‏{‏من الأشرار‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 62‏]‏ و‏{‏قرار‏}‏ إذا كان الحرف مخفوضاً، وروى المسيبي عن نافع فتح الراء من التوراة، وروى ورش عنه كسرها، وكان أبو عمرو والكسائي يكسران الراء من التوراة ويميلان من ‏{‏الأبرار‏}‏ وغيرها أشد من إمالة حمزة ونافع‏.‏

وقالوا في الإنجيل‏:‏ إنه إفعيل من النجل وهو الماء الذي ينز من الأرض، قال الخليل‏:‏ استنجلت الأرض وبها انجال إذا خرج منها الماء والنجل أيضاً والولد والنسل قاله الخليل وغيره، ونجله أبوه أي ولده، ومن ذلك قول الأعشى‏:‏ ‏[‏المنسرح‏]‏

أنجبُ أيّام والداه به *** أذ نَجَلاهُ فَنِعمَ مَا نَجَلا

قال ابن سيده عن أبي علي‏:‏ معنى قوله أيام والداه به كما تقول‏:‏ أنا بالله وبك، وقال أبو الفتح‏:‏ معنى البيت، أنجب والداه به أيام إذ نجلاه فهو كقولك حينئذ ويومئذ لكنه حال بالفاعل بين المضاف الذي هو أيام وبين المضاف إليه الذي هو إذ‏.‏ ويروى هذا البيت أنجب أيام والديه، والنجل الرمي بالشيء وذلك أيضاً من معنى الظهور وفراق شيء شيئاً، وحكى أبو القاسم الزجاجي في نوادره‏:‏ أن الوالد يقال له، نجل وأن اللفظة من لأضداد، وأما بيت زهير فالرواية الصحيحة فيه‏:‏

وكل فحل له نجل *** أي ولد كريم ونسل، وروى الأصمعي فيما حكى‏:‏ وكل فرع له نجل، وهذا لا يتجه إلى على تسمية الوالد نجلاً‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ ‏{‏الإنجيل‏}‏ مأخوذ من النجل وهو الأصل فهذا ينحو إلى ما حكى أبو القاسم قال أبو الفتح‏:‏ ف ‏{‏التوراة‏}‏ من وري الزناد، إذا ظهرت ناره، و‏{‏الإنجيل‏}‏ من نجل إذا ظهر ولده، أو من ظهور الماء من الأرض فهو مستخرج إما من اللوح المحفوظ، وإما من التوراة، و‏{‏الفرقان‏}‏ من الفرق بين الحق والباطل، فحروفها مختلفة، والمعنى قريب بعضه من بعض، إذ كلها معناه، ظهور الحق، وبيان الشرع، وفصله من غيره من الأباطيل، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «الأنجيل» بفتح الهمزة، وذلك لا يتجه في كلام العرب، ولكن يحميه مكان الحسن من الفصاحة، وإنه لا يقرأ إلا بما روى، وأراه نحا به نحو الأسماء الأعجمية‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏من قبل‏}‏ يعني من قبل القرآن، وقوله‏:‏ ‏{‏هدى للناس‏}‏ معناه دعاء، والناس بنو إسرائيل في هذا الموضع، لأنهم المدعوون بهما لا غير، وإن أراد أنهما ‏{‏هدى‏}‏ في ذاتهما مدعو إليه فرعون وغيره، منصوب لمن اهتدى به، فالناس عام في كل من شاء حينئذ أن يستبصر‏.‏

قال القاضي رحمه الله‏:‏ وقال هنا ‏{‏للناس‏}‏، وقال في القرآن ‏{‏هدى للمتقين‏}‏، وذلك عندي، لأن هذا خبر مجرد، وقوله‏:‏ ‏{‏هدى للمتقين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 2‏]‏ خبر مقترن به الاستدعاء والصرف إلى الإيمان، فحسنت الصفة، ليقع من السامع النشاط والبدار، وذكر الهدى الذي هو إيجاد الهداية في القلب، وهنا إنما ذكر الهدى الذي هو الدعاء، والهدى الذي هو في نفسه معد يهتدي به الناس، فسمي ‏{‏هدى‏}‏ لذلك، وقال ابن فورك‏:‏ التقدير هنا هدى للناس المتقين، ويرد هذا العام إلى ذلك الخاص، وفي هذا نظر، و‏{‏الفرقان‏}‏‏:‏ القرآن، سمي بذلك لأنه فرق بين الحق والباطل، قال محمد بن جعفر، فرق بين الحق والباطل في أمر عيسى عليه السلام، الذي جادل فيه الوفد، وقال قتادة والربيع وغيرهما، فرق بين الحق والباطل في أحكام الشرائع، وفي الحلال والحرام ونحوه، و‏{‏الفرقان‏}‏ يعم هذا كله، وقال بعض المفسرين، ‏{‏الفرقان‏}‏ هنا كل أمر فرق بين الحق والباطل، فيما قدم وحدث، فيدخل في هذا التأويل طوفان نوح، وفرق البحر لغرق فرعون، ويوم بدر، وسائر أفعال الله تعالى المفرقة بين الحق والباطل، فكأنه تعالى ذكر الكتاب العزيز، ثم التوراة والإنجيل، ثم كل أفعاله ومخلوقاته التي فرقت بين الحق والباطل، كما فعلت هذه الكتب، ثم توعد تعالى الكفار عموماً بالعذاب الشديد، وذلك يعم عذاب الدنيا بالسيف والغلبة، وعذاب الآخرة بالنار، والإشارة بهذا الوعيد إلى نصارى نجران، وقال النقاش‏:‏ إلى اليهود، كعب بن الأشرف، وكعب بن أسد، وبني أخطب وغيرهم، و‏{‏عزيز‏}‏، معناه غالب، وقد ذل له كل شيء، والنقمة والانتقام، معاقبة المذنب بمبالغة في ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 7‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ‏(‏5‏)‏ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏6‏)‏ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَآءِ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ‏}‏

هذه الآية خبر عن علم الله تعالى بالأشياء على التفصيل، وهذه صفة لم تكن لعيسى ولا لأحد من المخلوقين، ثم أخبر عن تصويره للبشر في أرحام الأمهات، وهذا أمر لا ينكره عاقل، ولا ينكر أن عيسى وسائر البشر لا يقدرون عليه، ولا ينكر أن عيسى عليه السلام من المصورين في الأرحام، فهذه الآية تعظيم لله تعالى في ضمنها الرد على نصارى نجران، وفي قوله‏:‏ ‏{‏إن الله لا يخفى عليه شيء‏}‏ وعيد ما لهم، فسر بنحو هذا محمد بن جعفر بن الزبير والربيع، وفي قوله‏:‏ ‏{‏هو الذي يصوركم‏}‏ رد على أهل الطبيعة، إذ يجعلونها فاعلة مستبدة، وشرح النبي صلى الله عليه وسلم كيفية التصوير في الحديث الذي رواه ابن مسعود وغيره أن النطفة إذا وقعت في الحرم مكثت نطفة أربعين يوماً ثم تكون علقة أربعين يوماً ثم مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله إليها ملكاً فيقول‏:‏ يا رب، أذكر أم أنثى‏؟‏ أشقي أم سعيد‏؟‏ الحديث بطوله على اختلاف ألفاظه، وفي مسند ابن سنجر حديث‏:‏ إن الله يخلق عظام الجنين وغضاريفه من مني الرجل ولحمه وشحمه وسائر ذلك من مني المرأة، وصور بناء مبالغة من‏:‏ صار يصور إذا أمال وثنى إلى حال ما، فلما كان التصوير إمالة إلى حال وإثباتاً فيها، جاء بناؤه على المبالغة، والرحم موضع نشأة الجنين، و‏{‏كيف يشاء‏}‏ يعني من طول وقصر ولون وسلامة وعاهة وغير ذلك من الأختلافات‏.‏ و‏{‏العزيز‏}‏ الغالب و‏{‏الحكيم‏}‏ ذو الحكمة أو المحكم في مخلوقاته وهذا أخص بما ذكر من التصوير‏.‏

و ‏{‏الكتاب‏}‏ في هذه الآية القرآن بإجماع من المتأولين، والمحكمات، المفصلات المبينات الثابتات الأحكام، والمتشابهات هي التي فيها نظر وتحتاج إلى تأويل ويظهر فيها ببادئ النظر إما تعارض مع أخرى أو مع العقل، إلى غير من أنواع التشابه، فهذا الشبه الذي من أجله توصف ب ‏{‏متشابهات‏}‏، إنما هو بينها وبين المعاني الفاسدة التي يظنها أهل الزيغ ومن لم يمعن النظر، وهذا نحو الحديث الصحيح، عن النبي عليه السلام، الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور متشابهات أي يكون الشيء حراماً في نفسه فيشبه عند من لم يمعن النظر شيئاً حلالاً وكذلك الآية يكون لها في نفسها معنى صحيح فتشبه عند من لم يمعن النظر أو عند الزائغ معنى آخر فاسداً فربما أراد الاعتراض به على كتاب الله، هذا عندي معنى الإحكام والتشابه في هذه الآية، ألا اترى أن نصارى نجران قالوا للنبي عليه السلام، أليس في كتابك أن عيسى كلمة وروح منه‏؟‏ قال نعم، قالوا‏:‏ فحسبنا إذاً‏.‏

قال الفقيه الإمام أبو محمد‏:‏ فهذا التشابه، واختلفت عبارة المفسرين في تعيين المحكم والمتشابه المراد بهذه الآية، فقال ابن عباس المحكمات هي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 151‏]‏ إلى ثلاثة آيات، وقوله في بني إسرائيل ‏{‏وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 23‏]‏ وهذا عندي مثال أعطاه في المحكمات، وقال ابن عباس أيضاً‏:‏ المحكمات ناسخة وحلاله وحرامه وما يؤمن به ويعمل، والمتشابه منسوخة ومقدمه ومؤخره وأمثاله وأقسامه وما يؤمن به ولا يعمل به، وقال ابن مسعود وغيره‏:‏ المحكمات الناسخات، والمتشابهات المنسوخات‏.‏

قال الفقيه الإمام‏:‏ وهذا عندي على جهة التمثيل أي يوجد الإحكام في هذا والتشابه في هذا، لا أنه وقف على هذا النوع من الآيات، وقال بهذا القول قتادة والربيع والضحاك، وقال مجاهد وعكرمة‏:‏ المحكمات ما فيه الحلال والحرام، وما سوى ذلك فهو متشابه يصدق بعضه بعضاً، وذلك مثل قوله‏:‏ ‏{‏وما يضل به إلا الفاسقين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 26‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏كذلك يجعل الله الرجس على الذني لا يؤمنون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 125‏]‏‏.‏

قال الفقيه أبو محمد‏:‏ وهذه الأقوال وما ضارعها يضعفها أن أهل الزيغ لا تعلق لهم بنوع مما ذكر دون سواه، وقال محمد بن جعفر بن الزبير‏:‏ المحكمات هي التي فيهن حجة الرب وعصمة العباد ودفع الخصوم والباطل ليس لها تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه، والمشتابهات لهن تصريف وتحريف وتأويل ابتلى الله فيهن العباد‏.‏

قال الفقيه الإمام أبو محمد‏:‏ وهذا أحسن الأقوال في هذه الآية، وقال ابن زيد‏:‏ المحكم ما أحكم فيه قصص الأنبياء والأمم وبين لمحمد وأمته، والمتشابه هو ما اشتبهت الألفاظ به من قصصهم عند التكرير في السور بعضها باتفاق الألفاظ واختلاف المعاني، وبعضه بعكس ذلك نحو قوله‏:‏ ‏{‏حية تسعى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 20‏]‏ و‏{‏ثعبان مبين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 107‏]‏ ونحو‏:‏ اسلك يدك، وأدخل يدك، وقالت جماعة من العلماء منهم جابر بن عبد الله بن رئاب وهو مقتضى قول الشعبي وسفيان الثوري، وغيرهما‏:‏ المحكمات من آي القرآن ما عرف العلماء تأويله وفهمو معناه وتفسيره والمتشابه ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل مما استأثر الله بعلمه دون خلقه قال بعضهم‏:‏ وذلك مثل وقت قيام الساعة وخروج يأجوج ومأجوج والدجال ونزول عيسى ونحو الحروف المقطعة في أوائل السور‏.‏

قال القاضي رحمه الله‏:‏ أما الغيوب التي تأتي فهي من المحكمات، لأن ما يعلم البشر منها محدود وما لا يعلمونه وهو تحديد الوقت محدود أيضاً، وأما أوائل السور فمن المتشابه لأنها معرضة للتأويلات ولذلك اتبعته اليهود وأرادوا أن يفهموا منه مدة أمة محمد عليه السلام، وفي بعض هذه العبارات التي ذكرنا للعلماء اعتراضات، وذلك أن التشابه الذي في هذه الآية مقيد بأنه مما لأهل الزيغ به تعلق، وفي بعض عبارات المفسرين تشابه لا يقتضي لأهل الزيغ تعلقاً‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أم الكتاب‏}‏ فمعناه الإعلام بأنها معظم الكتاب وعمدة ما فيه إذ المحكم في آيات الله كثير قد فصل ولم يفرط في شيء منه، قال يحيى بن يعمر‏:‏ هذا كما يقال لمكة-أم القرى- ولمرو أو خراسان، وكما يقال أم الرأس لمجتمع الشؤون إذ هو أخطر مكان، قال المهدوي والنقاش‏:‏ كل آية محكمة في كتاب الله يقال لها ‏{‏أم الكتاب‏}‏، وهذا مردود بل جميع المحكم هو ‏{‏أم الكتاب‏}‏، وقال النقاش‏:‏ وذلك كما تقول‏:‏ كلكم عليَّ أسد ضار‏.‏

قال الفقيه أبو محمد‏:‏ وهذا المثال غير محكم، وقال ابن زيد‏:‏ ‏{‏أم الكتاب‏}‏ معناه جماع الكتاب، وحكى الطبري عن أبي فاختة أنه قال‏:‏ ‏{‏هن أم الكتاب‏}‏ يراد به فواتح السور إذ منها يستخرج القرآن ‏{‏الم ذلك الكتاب‏}‏ منه استخرجت سورة البقرة ‏{‏الم الله لا إله إلا هو‏}‏ منه استخرجت سورة آل عمران، وهذا قول متداع للسقوط مضطرب لم ينظر قائله أول الآية وآخرها ومقصدها وإنما معنى الآية الإنحاء على أهل الزيغ والأشارة بذلك أولاً إلى نصارى نجران وإلى اليهود الذين كانوا معاصرين لمحمد عليه السلام فإنهم كانوا يعترضون معاني القرآن، ثم تعم بعد ذلك كل زائغ، فذكر الله تعالى أنه نزل الكتاب على محمد إفضالاً منه ونعمة، وأن محكمه وبينه الذي لا اعتراض فيه هو معظمه والغالب عليه، وأن متشابهه الذي يحتمل التأويل ويحتاج إلى التفهم هو أقله‏.‏ ثم إن أهل الزيغ يتركون المحكم الذي فيه غنيتهم ويتبعون المتشابه ابتغاء الفتنة وأن يفسدوا ذات البين ويردوا الناس إلى زيغهم، فهكذا تتوجه المذمة عليهم، و‏{‏أخر‏}‏ جمع أخرى لا ينصرف لأنه صفة، وعدل عن الألف واللام في أنه يثنى ويجمع، وصفات التفضيل كلها إذا عريت عن الألف واللام لم تثن ولم تجمع كأفضل وما جرى مجراه، ولا يفاضل بهذه الصفات بين شيئين إلا وهي منكرة، ومتى دخلت عليه الألف واللام زال معنى التفضيل بين أمرين، وليس عدل ‏{‏أخر‏}‏ عن الألف واللام مؤثراً في التعريف كما هو عدل- سحر- بل أخر نكرة، وأما سحر فعدل بأنه زالت الألف واللام وبقي معرفة في قوله، جئت يوم الجمعة سحر، وخلط المهدوي في هذه المسألة وأفسد كلام سيبويه فتأمله‏.‏

قوله تعالى‏:‏

‏{‏فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين في قلوبهم زيغ‏}‏ بعم كل طائفة من كافر وزنديق وجاهل صاحب بدعة، والزيغ الميل، ومنه زاغت الشمس، وزاغت الأبصار، والإشارة بالآية في ذلك الوقت كانت إلى نصارى نجران لتعرضهم للقرآن في أمر عيسى عليه السلام، قاله الربيع، وإلى اليهود، ثم تنسحب على كل ذي بدعة أو كفر، وبالميل عن الهدى فسر الزيغ محمد بن جعفر بن الزبير وابن مسعود وجماعة من الصحابة ومجاهد وغيرهم، و‏{‏ما تشابه منه‏}‏ هو الموصوف آنفاً- بمتشابهات- وقال قتادة في تفسر قوله تعالى ‏{‏وأما الذين في قلوبهم زيغ‏}‏‏:‏ إن لم يكونوا الحرورية وأنواع الخوارج، فلا أدري من هم‏؟‏ وقالت عائشة‏:‏ إذا رأيتم الذين يجادلون في القرآن فهم الذي عنى الله فاحذروهم، وقال الطبري‏:‏ الأشبه أن تكون الآية في الذين جادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مدته ومدة أمته بسبب حروف أوائل السور، وهؤلاء هم اليهود، و‏{‏ابتغاء‏}‏ نصب على المفعول من أجله، ومعناه طلب الفتنة، وقال الربيع، ‏{‏الفتنة‏}‏ هنا الشرك، وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏الفتنة‏}‏ الشبهات واللبس على المؤمنين، ثم قال‏:‏ ‏{‏وابتغاء تأويله‏}‏ والتأويل هو مرد الكلام ومرجعه والشيء الذي يقف عليه من المعاني، وهو من آل يؤول، إذا رجع، فالمعنى وطلب تأويله على منازعهم الفاسدة‏.‏

هذا فيما له تأويل حسن وإن كان مما لا يتأول بل يوقف فيه كالكلام في معنى الروح ونحوه، فنفس طلب تأويله هو اتباع ما تشابه‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ ابتغوا معرفة مدة محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، ثم قال‏:‏ ‏{‏وما يعلم تأويله إلا الله‏}‏ فهذا على الكمال والتوفية فيما لا يتأول ولا سبيل لأحد إليه كأمر الروح وتعرف وقت قيام الساعة وسائر الأحداث التي أنذر بها الشرع، وفيما يمكن أن يتأوله العلماء ويصح التطرق إليه، فمعنى الآية‏:‏ وما يعلم تأويله على الكمال إلا الله‏.‏

واختلف العلماء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والراسخون في العلم‏}‏ فرأت فرقة، أن رفع ‏{‏والراسخون‏}‏ هو بالعطف على اسم الله عز وجل وأنهم داخلون في علم المتشابه في كتاب الله وأنهم مع علمهم به، ‏{‏يقولون آمنا به‏}‏ الآية‏.‏ قال بهذا القول ابن عباس، وقال‏:‏ أنا ممن يعلم تأويله، وقال مجاهد‏:‏ والراسخون في العلم يعلمون تأويله ويقولون آمنا به، وقاله الربيع ومحمد بن جعفر بن الزبير وغيرهم، و‏{‏يقولون‏}‏ على هذا التأويل نصب على الحال، وقالت طائفة أخرى‏:‏ ‏{‏والراسخون‏}‏ رفع بالابتداء وهو مقطوع من الكلام الأول وخبره ‏{‏يقولون‏}‏، والمنفرد بعلم المتشابه هو الله وحده بحسب اللفظ في الآية وفعل الراسخين قولهم ‏{‏آمنا به‏}‏ قالته عائشة وابن عباس أيضاً، وقال عروة بن الزبير‏:‏ إن الراسخين لا يعلمون تأويله ولكنهم يقولون، ‏{‏آمنا به‏}‏، وقال أبو نهيك الأسدي‏:‏ إنكم تصلون هذه الآية وإنها مقطوعة وما انتهى علم الراسخين إلا إلى قولهم ‏{‏آمنا به كل من عند ربنا‏}‏ وقال مثل هذا عمر بن عبد العزيز، وحكى نحوه الطبري عن يونس عن أشهب عن مالك بن أنس‏.‏

قال القاضي رحمه الله‏:‏ وهذه المسألة إذا تؤملت قرب الخلاف فيها من الاتفاق، وذلك أن الله تعالى قسم آي الكتاب قسمين‏:‏- محكماً ومتشابهاً- فالمحكم هو المتضح المعنى لكل من يفهم كلام العرب لا يحتاج فيه إلى نظر ولا يتعلق به شيء يلبس ويستوي في علمه الراسخ وغيره والمتشابه يتنوع، فمنه ما لا يعلم البتة، كأمر الروح، وآماد المغيبات التي قد أعلم الله بوقوعها إلى سائر ذلك، ومنه ما يحمل وجوه في اللغة ومناح في كلام العرب، فيتأول تأويله المستقيم، ويزال ما فيه مما عسى أن يتعلق به من تأويل غير مستقيم كقوله في عيسى ‏{‏وروح منه‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 171‏]‏ إلى غير ذلك، ولا يسمى أحد راسخاً إلا بأن يعلم من هذا النوع كثيراً بحسب ما قدر له، وإلا فمن لا يعلم سوى المحكم فليس يسمى راسخاً، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما يعلم تأويله‏}‏ الضمير عائد على جميع متشابه القرآن، وهو نوعان كما ذكرنا، فقوله ‏{‏الا الله‏}‏ مقتض ببديهة العقل أنه يعلمه على الكمال والاستيفاء، يعلم نوعيه جميعاً، فإن جعلنا قوله‏:‏ ‏{‏والراسخون‏}‏ عطفاً على اسم الله تعالى، فالمعنى إدخالهم في علم التأويل لا على الكمال، بل علمهم إنما هو في النوع الثاني من المتشابه، وبديهة العقل تقضي بهذا، والكلام مستقيم على فصاحة العرب كما تقول‏:‏ ما قام لنصرتي إلا فلان وفلان، وأحدهما قد نصرك بأن حارب معك، والآخر إنما أعانك بكلام فقط، إلى كثير من المثل، فالمعنى ‏{‏وما يعلم‏}‏ تأويل المتشابه إلا الله ‏{‏والراسخون‏}‏ كل بقدره، وما يصلح له، ‏{‏والراسخون‏}‏ بحال قول في جميعه ‏{‏آمنا به‏}‏، وإذا تحصل لهم في الذي لا يعلم ولا يتصور عليه تمييزه من غيره فذلك قدر من العلم بتأويله، وإن جعلنا قوله‏:‏ ‏{‏والراسخون‏}‏، رفعاً بالابتداء مقطوعاً مما قبله، فتسميتهم راسخين يقتضي بأنهم يعلمون أكثر من المحكم الذي يستوي في علمه جميع من يفهم كلام العرب، وفي أي شيء هو رسوخهم، إذا لم يعلموا إلا ما يعلم الجميع، وما الرسوخ إلا المعرفة بتصاريف الكلام وموارد الأحكام، ومواقع المواعظ، وذلك كله بقريحة معدة، فالمعنى ‏{‏وما يعلم تأويله‏}‏ على الاستيفاء إلى الله، والقوم الذي يعلمون منه ما يمكن أن يعلم يقولون في جميعه ‏{‏آمنا به كل من عند ربنا‏}‏ وهذا القدر هو الذي تعاطى ابن عباس رضي الله عنه، وهو ترجمان القرآن، ولا يتأول عليه أنه علم وقت الساعة وأمر الروح وما شاكله‏.‏ فإعراب ‏{‏الراسخون‏}‏ يحتمل الوجهين، ولذلك قال ابن عباس بهما، والمعنى فيهما يتقارب بهذا النظر الذي سطرناه، فأما من يقول‏:‏ إن المتشابه إنما هو ما لا سبيل لأحد إلى علمه فيستقيم على قوله إخراج الراسخين من علم تأويله، لكن تخصيصه المتشابهات بهذا النوع غير صحيح، بل الصحيح في ذلك قول من قال‏:‏ المحكم ما لا يحتمل إلا تأويلاً واحداً والمتشابه ما احتمل من التأويل أوجهاً، وهذا هو متبع أهل الزيغ، وعلى ذلك يترتب النظر الذي ذكرته، ومن قال من العلماء الحذاق بأن الراسخين لا يعلمون تأويل المتشابه فإنما أرادوا هذا النوع وخافوا أن يظن أحد أن الله وصف الراسخين بعلم التأويل على الكمال، وكذلك ذهب الزجاج إلى أن الإشارة بما تشابه منه إنما هي إلى وقت البعث الذي أنكره، وفسر باقي الآية على ذلك، فهذا أيضاً تخصيص لا دليل عليه، وأما من يقول، إن المتشابه هو المنسوخ فيستقيم على قوله إدخال الراسخين في علم التأويل لكن تخصيصه المتشابهات بهذا النوع غير صحيح، ورجح ابن فورك أن الراسخين يعلمون التأويل وأطنب في ذلك، وقرأ أبي بن كعب وابن عباس‏:‏ «إلا الله ويقول‏:‏ الراسخون في العلم آمنا به»، وقرأ ابن مسعود «وابتغاء تأويله»، إن تأويله إلا عند الله،- ‏{‏والراسخون في العلم‏}‏ يقولون ‏{‏آمنا به‏}‏- والرسوخ في الثبوت في الشيء، وأصله في الأجرام أن يرسخ الجبل أو الشجر في الأرض وسئل النبي عليه السلام عن «الراسخين في العلم»، فقال‏:‏ هو من برت يمينه وصدق لسانه واستقام، وقوله‏:‏ ‏{‏كل من عند ربنا‏}‏ فيه ضمير عائد على كتاب الله، محكمه ومتشابهه، والتقدير، كله من عند ربنا، وحذف الضمير لدلالة لفظ كل عليه، إذ هي لفظة تقتضي الإضافة‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما يذكر إلا أولو الألباب‏}‏ أي ما يقول هذا ويؤمن به ويقف حيث وقف ويدع اتباع المتشابه إلاذو لب، وهو العقل، و‏{‏أولو‏}‏‏:‏ جمع ذو‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 9‏]‏

‏{‏رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ‏(‏8‏)‏ رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

يحتمل أن تكون هذه الآية حكاية عن الراسخين في العلم، أنهم يقولون هذا مع قولهم ‏{‏آمنا به‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 7‏]‏ ويحتمل أن يكون المعنى منقطعاً من الأول لما ذكر أهل الزيغ وذكر نقيضهم، وظهر ما بين الحالتين عقب ذلك بأن علم عبادة الدعاء إليه في أن لا يكونوا من الطائفة الذميمة التي ذكرت وهي أهل الزيغ، وهذه الآية حجة على المعتزلة في قولهم، إن الله لا يضل العباد، ولو لم تكن الإزاغة من قبله لما جاز أن يدعي في دفع ما لا يجوز عليه فعله و‏{‏تزغ‏}‏ معناه، تمل قلوبنا عن الهدى والحق، وقرأ أبو واقد، والجراح «ولا تزغ قلوبُنا» بإسناد الفعل إلى القلوب، وهذه أيضاً رغبة إلى الله تعالى‏.‏ وقال أبو الفتح‏:‏ ظاهر هذا ونحوه الرغبة إلى القلوب وإنما المسؤول الله تعالى، وقوله الرغبة إلى القلوب غير متمكن، ومعنى الآية على القراءتين، أن لا يكن منك خلق الزيغ فيها فتزيغ هي‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وقيل‏:‏ إن معنى الآية لا تكلفنا عبادة ثقيلة تزيغ منها قلوبنا‏.‏

قال الفقيه الإمام‏:‏ وهذا قول فيه التحفظ من خلق الله تعالى الزيغ والضلالة في قلب أحد من العباد، و‏{‏من لدنك‏}‏ معناه‏:‏ من عندك ومن قبلك، أن تكون تفضلاً لا عن سبب منا ولا عمل، وفي هذا استسلام وتطارح، والمراد هب لنا نعيماً صادراً عن الرحمة لأن الرحمة راجعة إلى صفات الذات فلا تتصور فيها الهبة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ربنا إنك جامع الناس‏}‏ إقراب بالبعث ليوم القيامة، قال الزجاج‏:‏ هذا هو التأويل الذي علمه الراسخون فأقروا به، وخالف الذين اتبعوا ما تشابه عليهم من أمر البعث حين أنكروه، والريب‏:‏ الشك، والمعنى أنه في نفسه حق لا ريب فيه وإن وقع فيه ريب عند المكذبين به فذلك لا يعتد به إذ هو خطأ منهم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله لا يخلف الميعاد‏}‏ يحتمل أن يكون إخباراً منه محمداً عليه السلام وأمته، ويحتمل أن يكون حكاية من قول الداعين، ففي ذلك إقرار بصفة ذات الله تعالى، و‏{‏الميعاد‏}‏ مفعال من الوعد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 11‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ ‏(‏10‏)‏ كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏11‏)‏‏}‏

هم الكفار الذين لا يقرون ببعث إنما هي على وجه الدهر وإلى يوم القيامة في زينة الدنيا وهي المال والبنون، فأخبر الله تعالى في هذه الآية، أن ذلك المتهم فيه لا يغني عن صاحبه شيئاً ولا يمنعه من عذاب الله وعقابه، و‏{‏من‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏من الله‏}‏ لابتداء الغاية، والإشارة بالآية إلى معاصري النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا يفخرون بأموالهم وأبنائهم، وهي- بعد- متناولة كل كافر، وقرأ أبو عبد الرحمن‏:‏ «لن يغني» بالياء، على تذكير العلامة، والوقود بفتح الواو ما يحترق في النار من حطب ونحوه، وكذلك هي قراءة جمهور الناس، وقرا الحسن ومجاهد وجماعة غيرهما ‏{‏وُقُود‏}‏ بضم الواو وهذا على حذف مضاف تقديره، حطب ‏{‏وقود النار‏}‏، والوقود بضم الواو المصدر، وقدت النار تقد إذا اشتعلت، والدأْب والدأَب، بسكون الهمزة وفتحها، مصدر دأب يدأب- إذا لازم فعل شيء ودام عليه مجتهداً فيه، ويقال للعادة- دأب- فالمعنى في الآية، تشبيه هؤلاء في لزومهم الكفر ودوامهم عليه بأولئك المتقدمين، وآخر الآية يقتضي الوعيد بأن يصيب هؤلاء مثل ما أصاب أولئك من العقاب‏.‏

والكاف في قوله ‏{‏كدأب‏}‏ في موضع رفع، التقدير‏:‏ دأبهم ‏{‏كدأب‏}‏، ويصح أن يكون الكاف في موضع نصب، قال الفراء‏:‏ هو نعت لمصدر محذوف تقديره كفراً ‏{‏كدأب‏}‏، فالعامل فيه ‏{‏كفروا‏}‏، ورد هذا القول الزجاج بأن الكاف خارجة من الصلة فلا يعمل فيها ما في الصلة‏.‏

قال القاضي رحمه الله‏:‏ ويصح أن يعمل فيه فعل مقدر من لفظ «الوقود» ويكون التشبيه في نفس الاحتراق، ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏النار يعرضون عليها غدواً وعشياً، أدخلوا آل فرعون أشد العذاب‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 46‏]‏، والقول الأول أرجح الأقوال أن يكون الكاف في موضع رفع، والهاء في ‏{‏قبلهم‏}‏ عائدة على ‏{‏آل فرعون‏}‏، ويحتمل أن تعود على معاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكافر، وقوله‏:‏ ‏{‏بآياتنا‏}‏ يحتمل أن يريد بالآيات المتلوة، ويحتمل أن يريد العلامات المنصوبة، واختلفت عبارة المفسرين، في تفسير الدأب، وذلك كله راجع إلى المعنى الذي ذكرناه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 13‏]‏

‏{‏قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ‏(‏12‏)‏ قَدْ كَانَ لَكُمْ آَيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ‏(‏13‏)‏‏}‏

قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وابن عامر، «ستغلبون وتحشرون» بالتاء من فوق و«يرونهم» بالياء من تحت، وحكى أبان عن عاصم «تُرونهم» بالتاء فمن فوق مضمومة، وقرا نافع ثلاثتهن بالتاء من فوق، وقرا حمزة ثلاثتهن بالياء من تحت، وبكل قراءة من هذه قرأ جمهور من العلماء، وقرأ ابن عباس، وطلحة بن مصرف وأبو حيوة، «يُرُونهم» بالياء المضمومة، وقرا أبو عبد الرحمن، بالتاء من فوق مضمومة، واختلف من الذين أمر بالقول لهم من الكفار، فقيل هم جميع معاصريه من الكفار، أمر بأن يقول لهم هذا الذي فيه إعلام بغيب ووعيد، قد صدق بحمد الله غلب الكفر وصار من مات عليه إلى جهنم، ونحا إلى هذا أبو علي في- الحجة- وتظاهرت روايات بأن المراد يهود المدينة، قال ابن عباس وغيره‏:‏ لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً يوم بدر، وقدم المدينة، جمع اليهود في سوق بني قينقاع فقال‏:‏ يا معشر يهود أسلموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشاً فقالوا يا محمد‏:‏ لا يغرنك نفسك أن قتلت نفراً من قريش كانوا أغماراً لا يعرفون القتال، إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، فأنزل الله في قولهم هذه الآية، وروي حديث آخر ذكره النقاش، وهو أن النبي عليه السلام لما غلب قريشاً ببدر قالت اليهود‏:‏ هذا هو النبي المبعوث الذي في كتابنا وهو الذي لا تهزم له راية، وكثرت فتنتهم بالأمر، فقال لهم رؤساؤهم وشياطينهم‏:‏ لا تعجلوا وأمهلوا حتى نرى أمره في وقعة أخرى، فلما وقعت أحد كفر جميعهم وبقوا على أولهم، وقالوا‏:‏ ليس محمد بالنبي المنصور فنزلت الآية في ذلك، أي قل لهؤلاء اليهود سيغلبون يعني قريشاً، وهذا التأويل إنما يستقيم على قراءة «سيغلبون ويحشرون» بالياء من تحت، ومن قرأ بالتاء فمعنى الآية‏:‏ قل للكفار جميعاً هذه الألفاظ، ومن قرأ بالياء من تحت، فالمعنى قل لهم كلاماً هذا معناه، ويحتمل قراءة التاء التأويل الذي ذكرناه آنفاً، أي قل لليهود ستغلب قريش، ورجح أبو علي قراءة التاء على المواجهة، وأن الذين كفروا يعم الفريقين، المشركين واليهود، وكل قد غلب بالسيف والجزية والذلة، والحشر‏:‏ الجمع والإحضار، وقوله ‏{‏وبئس المهاد‏}‏ يعني جهنم، هذا ظاهر الآية، وقال مجاهد‏:‏ المعنى بس ما مهدوا لأنفسهم، فكأن المعنى، وبئس فعلهم الذي أداهم إلى جهنم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قد كان لكم آية في فئتين‏}‏ الآية تحتمل أن يخاطب بها المؤمنون وأن يخاطب بها جميع الكفار وأن يخاطب بها يهود المدينة، وبكل احتمال منها قد قال قوم، فمن رأى أن الخطاب بها للمؤمنين فمعنى الآية تثبيت النفوس وتشجيعها، لأنه لما قال للكفار ما أمر به أمكن أن يستبعد ذلك المنافقون وبعض ضعفه المؤمنين، كما قال قائل يوم الخندق‏:‏ يعدنا محمد أموال كسرى وقيصر، ونحن لا نأمن على أنفسنا في المذهب، وكما قال عدي بن حاتم حين أخبره النبي عليه السلام بالأمنة التي تأتي، فقلت في نفسي‏:‏ وأين دعار طيئ الذين سعروا البلاد‏؟‏ الحديث بكماله، فنزلت الآية مقوية لنفوس المؤمنين ومبينة صحة ما أخبر به بالمثال الواقع، فمن قرأ «ترونهم» بالتاء من فوق فهي مخاطبة لجميع المؤمنين إذ قد رأى ذلك جمهور منهم، والهاء والميم في «ترونهم» تجمع المشركين، وفي «مثلهم» تجمع المؤمنين، ومن قرأ بالياء من تحت فالمعنى يرى الجمع من المؤمنين جمع الكفار مثلي جمع المؤمنين، ومن رأى أن الخطاب لجميع الكفار ومن رأى أنه لليهود فالآية عنده داخلة فيما أمر محمد عليه السلام أن يقوله لهم احتجاجاً عليهم، وتبييناً لصورة الوعيد المتقدم في أنهم سيغلبون، فمن قرأ بالياء من تحت، فالعنى يرى الجمع من المؤمنين جمع الكفار مثلي جمع المؤمنين، ومن قرأ بالتاء فالمعنى لو حضرتم أو إن كنتم حضرتم وساغت العبارة لوضوح الأمر في نفسه ووقوع اليقين به لكل إنسان في ذلك العصر، ومن قرأ بضم التاء أو الياء فكأن المعنى، أن اعتقاد التضعيف في جميع الكفار إنما كان تخميناً وظناً لا يقيناً، فلذلك ترك في العبارة من الشك وذلك أن أرى بضم الهمزة تقولها فيما بقي عندك فيه نظر و-أرى- بفتح الهمزة تقولها فيما قد صح نظرك فيه، ونحا هذا المنحى أبو الفتح وهو صحيح، قال أبو علي‏:‏ والرؤية في هذه الآية عين، ولذلك تعدت إلى مفعول واحد، و‏{‏مثليهم‏}‏ نصب على الحال من الهاء والميم في ‏{‏ترونهم‏}‏ وأجمع الناس على الفاعل ب ‏{‏ترونهم‏}‏ المؤمنون والضمير المتصل هو للكفار، إلا ما حكى الطبري عن قوم أنهم قالوا‏:‏ بل كثر الله عدد المؤمنين في عيون الكفار حتى كانوا عندهم ضعفيهم، وضعف الطبري هذا القول، وكذلك هو مردود من جهات، بل قلل الله كل طائفة في عين الأخرى، ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، فقلل الكفار في عيون المؤمنين ليقع التجاسر ويحتقر العدو، وهذا مع اعتقاد النبي وقوله، واعتقاد أولي الفهم من أصحابه أنهم من التسعمائة إلى الألف، لكن أذهب الله عنهم البهاء وانتشار العساكر وفخامة الترتيب، حتى قال ابن مسعود في بعض ما روي عنه‏:‏ لقد قلت لرجل إلى جنبي أتراهم سبعين‏؟‏ فقال‏:‏ أظنهم مائة، فلما أخذنا الأسرى أخبرونا أنهم كانوا ألفاً، وقلل الله المؤمنين في عيون الكفار ليغتروا ولا يحزموا، وتظاهرت الروايات أن جمع الكفار ببدر كان نحو الألف فوق التسعمائة وأن جمع المؤمنين كان ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً وقيل وثلاثة عشر فكان الكفار ثلاثة من المؤمنين، لكن رجع بنو زهرة مع الأخنس بن شريق، ورجع طالب بن أبي طالب وأتباع وناس كثير حتى بقي للقتال من يقرب من المثلين، وقد ذكر النقاش نحواً من هذا فذكر الله تعالى المثلين، إذ أمرهما متيقن لم يدفعه قط أحد، وقد حكى الطبري عن ابن عباس‏:‏ أن المشركين في قتال بدر كانوا ستمائة وستة وعشرين رجلاً، وقد ذهب الزجاج وبعض المفسرين، أنهم كانوا نحو الألف وأراهم الله للمؤمنين مثليهم فقط، قال‏:‏ فهذا التقليل في الآية الأخرى، ثم نصرهم عليهم مع علمهم بأنهم مثلاهم في العدد، لأنه كان أعلم المسلمين أن المائة منهم تغلب المائتين من الكفار، وروى علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي عليه السلام أنه قال يوم بدر‏:‏ القوم ألف، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لكم آية‏}‏ يريد علامة وأمارة ومعتبراً، والفئة‏:‏ الجماعة من الناس سميت بذلك لأنها يفاء إليها، أي يرجع في وقت الشدة، وقال الزجاج‏:‏ الفئة الفرقة، مأخوذة من فأوت رأسه بالسيف، ويقال‏:‏ فأيته إذا فلقته، ولا خلاف أن الإشارة بهاتين الفئتين هي إلى يوم بدر، وقرأ جمهور الناس «فئةٌ تقاتل» برفع «فئةٌ» على خبر ابتداء، تقديره إحداهما فئة، وقرأ مجاهد والحسن والزهري وحميد‏:‏‏:‏ فئةٍ «بالخفض على البدل، ومنهم من رفع» كافرةٌ «ومنهم من خفضها على العطف، وقرأ ابن أبي عبلة‏:‏» فئةً «بالنصب وكذلك» كافرة «قال الزجاج‏:‏ يتجه ذلك على الحال كأنه قال‏:‏ التقتا مؤمنة وكافرة، ويتجه أن يضمر فعل أعني ونحوه و‏{‏رأي العين‏}‏ نصب على المصدر، و‏{‏ويؤيد‏}‏ معناه يقوي من الأيد وهو القوة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ ‏(‏14‏)‏‏}‏

قرأ جمهور الناس «زُين» على بناء الفعل للمفعول ورفع «حبُّ» على أنه مفعول لم يسم فاعله، وقرأ الضحاك ومجاهد «زَين» على بناء الفعل للفاعل ونصب «حبَّ» على أنه المفعول، واختلف الناس من المزين‏؟‏ فقالت فرقة‏:‏ الله زين ذلك وهو ظاهر قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأنه قال لما نزلت هذه الآية‏:‏ قلت الآن يا رب حين زينتها لنا فنزلت‏:‏ ‏{‏قل أؤنبئكم بخير من ذلكم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 15‏]‏، وقالت فرقة‏:‏ المزين هو الشيطان، وهذا ظاهر قول الحسن بن أبي الحسن، فإنه قال من زينها‏؟‏ ما أحد أشد لها ذماً من خالقها‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ وإذا قيل زين الله، فمعناه بالإيجاد والتهيئة لانتفاع وإنشاء الجبلة عن الميل إلى هذه الأشياء، وإذا قيل زين الشيطان فمعناه بالوسوسة والخديعة وتحسين أخذها من غير وجوهها‏.‏ والآية تحتمل هذين النوعين من التزيين ولا يختلف مع هذا النظر، وهذه الآية على كلا الوجهين ابتداء وعظ لجميع الناس، وفي ضمن ذلك توضح لمعاصري محمد عليه السلام من اليهود وغيرهم، و‏{‏الشهوات‏}‏ ذميمة واتباعها مردٍ وطاعتها مهلكة، وقد قال عليه السلام‏:‏ «حفت النار بالشهوات وحفت الجنة بالمكاره» فحسبك أن النار حفت بها، فمن واقعها خلص إلى النار، و‏{‏والقناطير‏}‏ جمع قنطار، وهو العقدة الكبيرة من المال، واختلف الناس في تحرير حده كم هو‏؟‏ فروى أبي بن كعب، عن النبي عليه السلام أنه قال‏:‏ القنطار ألف ومائتا أوقية، وقال بذلك معاذ بن جبل وعبد الله بن عمر وأبو هريرة وعاصم بن أبي النجود وجماعة من العلماء، وهو أصح الأقوال، لكن القنطار على هذا يختلف باختلاف البلاد في قدر الأوقية، وقال ابن عباس والضحاك بن مزاحم والحسن بن أبي الحسن‏:‏ القنطار ألف ومائتا مثقال، وروى الحسن ذلك مرفوعاً عن النبي عليه السلام، قال الضحاك وهو من ‏{‏الفضة‏}‏ ألف ومائتا مثقال، وروي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ القنطار من ‏{‏الفضة‏}‏ اثنا عشر ألف درهم، ومن ‏{‏الذهب‏}‏ ألف دينار، وروي بذلك عن الحسن والضحاك وقال سعيد بن المسيب‏:‏ القنطار ثمانون ألفاً، وقال قتادة‏:‏ القنطار مائة رطل من ‏{‏الذهب‏}‏ أو ثمانون ألف درهم من ‏{‏الفضة‏}‏، وقال السدي‏:‏ القنطار ثمانيه آلاف مثقال وهي مائة رطل، وقال مجاهد القنطار سبعون ألف دينار، وروي ذلك عن ابن عمر، وقال أبو نضرة‏:‏ القنطار ملء مسك ثور ذهباً‏.‏

قال ابن سيده‏:‏ هكذا هو بالسريانية، وقال الربيع بن أنس‏:‏ القنطار المال الكثير بعضه على بعض، وحكى النقاش عن ابن الكلبي، أن القنطار بلغة الروم ملء مسك ثور ذهباً، وقال النقاش‏:‏ ‏{‏القناطير‏}‏ ثلاثة، ‏{‏والمقنطرة‏}‏ تسعة لأنه جمع الجمع، وهذا ضعف نظر وكلام غير صحيح، وقد حكى مكي نحوه عن ابن كيسان أنه قال‏:‏ لا تكون ‏{‏المقنطرة‏}‏ أقل من تسعة وحكى المهدوي عنه وعن الفراء، لا تكون ‏{‏المقنطرة‏}‏ أكثر من تسعة، وهذا كله تحكم‏.‏

قال أبو هريرة‏:‏ القنطار اثنا عشر ألف أوقية، وحكى مكي قولاً إن القنطار أربعون أوقية ذهباً أو فضة، وقاله ابن سيده في المحكم، وقال‏:‏ القنطار بلغة بربر ألف مثقال، وروى أنس بن مالك عن النبي عليه السلام في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وآتيتم إحداهن قنطاراً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 20‏]‏ قال ألف دينار ذكره الطبري، وحكى الزجاج أنه قيل‏:‏ إن القنطار هو رطل ذهباً أوفضة وأظنها وهماً، وإن القول مائة رطل فسقطت مائة للناقل، والقنطار إنما هو اسم المعيار الذي يوزن به، كما هو الرطل والربع، ويقال لما بلغ ذلك الوزن هذا قنطار أي يعدل القنطار، والعرب تقول‏:‏ قنطر الرجل إذا بلغ ماله أن يوزن بالقنطار، وقال الزجاج‏:‏ القنطار مأخوذ من عقد الشيء وأحكامه والقنطرة المعقودة نحوه، فكأن القنطار عقدة مال‏.‏

واختلف الناس في معنى قوله‏:‏ ‏{‏المقنطرة‏}‏ فقال الطبري‏:‏ معناه المضعفة، وكأن ‏{‏القناطير‏}‏ ثلاثة و‏{‏المقنطرة‏}‏ تسع، وقد تقدم ذكر هذا النظر، وقال الربيع‏:‏ معناه المال الكثير بعضه فوق بعض، وقال السدي‏:‏ معنى ‏{‏المقنطرة‏}‏، المضروبة حتى صارت دنانير أو دراهم، وقال مكي‏:‏ ‏{‏المقنطرة‏}‏ المكملة، والذي أقول‏:‏ إنها إشارة إلى حضور المال وكونه عتيداً، فذلك أشهى في أمره وذلك أنك تقول في رجل غني من الحيوان والأملاك‏:‏ فلان صاحب قناطير مال أي لو قومت أملاكه لاجتمع من ذلك ما يعدل قناطير، وتقول في صاحب المال الحاضر العتيد هو صاحب قناطير مقنطرة أي قد حصلت كذلك بالفعل بها، أي قنطرت فهي مقنطرة، وذلك أشهى للنفوس وأقرب للانتفاع وبلوغ الآمال‏.‏ وقد قال مروان بن الحكم، ما المال إلا ما حازته العياب، وإذا كان هذا فسواء كان المال مسكوكاً، أو غير مسكوك، أما أن المسكوك أشهى لما ذكرناه، ولكن لا تعطي ذلك لفظة ‏{‏المقنطرة‏}‏‏.‏

‏{‏والخيل‏}‏‏:‏ جمع خائل عند أبي عبيدة، سمي الفرس لأنه يختال في مشيه فهو كطائر وطير، وقال غيره‏:‏ هو اسم جمع لا واحد له من لفظه، واختلف المفسرون في معنى ‏{‏المسومة‏}‏ فقال سعيد بن جبير وابن عباس وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى والحسن والربيع ومجاهد، معناه الراعية في المروج والمسارح تقول‏:‏ سامت الدابة أو الشاة إذا سرحت وأخذت سومها من الرعي أي غاية جهدها ولم تقصر عن حال دون حال، وأسمتها أنا إذا تركتها لذلك، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «في سائمة الغنم الزكاة» ومنه قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فيه تسيمون‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 10‏]‏ وروي عن مجاهد أنه قال‏:‏ ‏{‏المسومة‏}‏ معناه المطهمة الحسان، وقاله عكرمة، سومها الحسن، وروي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ ‏{‏المسومة‏}‏ معناه المعلمة، شيات الخيل في وجوهها وقاله قتادة، ويشهد لهذا القول بيت لبيد‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

وَغَدَاةَ قاعِ الْقرْنَتينِ أتيْنَهُمْ *** زُجْلاً يلوحُ خِلالها التَّسْوِيمُ

وأما قوله النابغة‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏‏:‏

بسمرٍ كَالْقِداحِ مُسَوَّمَاتٍ *** عَلَيْهَا مَعْشَرٌ أَشْبَاهُ جنِّ

فيحتمل أن يريد المطهمة الحسان، ويحتمل أن يريد المعلمة بالشيات ويحتمل أن يريد المعدة، وقد فسر الناس قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مسومة عند ربك‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 83‏]‏ بمعنى معدة، وقال ابن زيد في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والخيل المسومة‏}‏ معناه‏:‏ المعدة للجهاد‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق‏:‏ قوله‏:‏ للجهاد ليس من تفسير اللفظة، ‏{‏والأنعام‏}‏ الأصناف الأربعة‏:‏ الإبل والبقر والضأن والمعز ‏{‏والحرث‏}‏ هنا اسم لكل ما يحرث، وهو مصدر سمي به، تقول‏:‏ حرث الرجل إذا أثار ألأرض لمعنى الفلاحة فيقع اسم الحرث على زرع الحبوب وعلى الجنات وغير ذلك من أنواع الفلاحة‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذ يحكمان في الحرث‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 78‏]‏ قال جمهور المفسرين، كان كرماً، والمتاع ما يستمتع به وينتفع مدة ما منحصرة، و‏{‏المآب‏}‏ المرجع، تقول‏:‏ آب الرجل يؤوب، ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

رضيتُ من الْغَنِيمَةِ بالإيَابِ *** وقول الآخر ‏[‏بشر بن أبي خازم‏]‏‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

إذا ما القَارِظُ العنَزِيّ آبا *** وقول عبيد‏:‏ ‏[‏مخلع البسيط‏]‏

وَغَائِبُ الموتِ لا يؤوبُ *** وأصل مآب مأوب، نقلت حركة الواو إلى الهمزة وأبدل من الواو ألف، مثل مقال، فمعنى الآية تقليل أمر الدنيا وتحقيرها، والترغيب في حسن المرجع إلى الله تعالى في الآخرة، وفي قوله‏:‏ ‏{‏زين للناس‏}‏ تحسر ما على نحو ما في قول النبي عليه السلام‏:‏ تتزوج المرأة لأربع-الحديث- وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل أؤنبئكم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 15‏]‏ بمثابة قول النبي عليه السلام‏:‏ «فاظفر بذات الدين»‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ‏(‏15‏)‏‏}‏

في هذه الآية تسلية عن الدنيا وتقوية لنفوس تاركيها، وذكر تعالى حال الدنيا وكيف استقر تزيين شهواتها، ثم جاء الإنباء بخير من ذلك، هازاً للنفوس وجامعاً لها لتسمع هذا النبأ المستغرب النافع لمن عقل، وأنبئ‏:‏ معناه أخبر، وذهبت فرقة من الناس إلى أن الكلام الذي أمر النبي صلى عليه السلام بقوله تم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عند ربهم‏}‏ و‏{‏جنات‏}‏ على هذا مرتفع بالابتداء المضمر تقديره‏:‏ ذلك جنات، وذهب آخرون إلى أن الكلام تم في قوله‏:‏ ‏{‏من ذلكم‏}‏ وأن قوله ‏{‏للذين‏}‏ خبر متقدم، و‏{‏جنات‏}‏ رفع بالابتداء، وعلى التأويل الأول يجوز في ‏{‏جنات‏}‏ الخفض بدلاً من خير، ولا يجوز ذلك على التأويل الثاني، والتأويلان محتملان، وقوله ‏{‏من تحتها‏}‏ يعني من تحت أشجارها وعلوها من الغرف ونحوها و‏{‏خالدين‏}‏ نصب على الحال، وقوله‏:‏ ‏{‏وأزواج‏}‏ عطف على الجنات وهو جمع زوج وهي امرأة الإنسان، وقد يقال زوجة، ولم يأت في القرآن، و‏{‏مطهرة‏}‏، معناه من المعهود في الدنيا من الأقذار والريب وكل ما يصم في الخلق والخلق، ويحتمل أن يكون الأزواج الأنواع والأشباه، والرضوان، مصدر من الرضى وفي الحديث عن النبي عليه السلام‏:‏ أن أهل الجنة إذا استقروا فيها وحصل لكل واحد منهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر قال الله لهم‏:‏ أتريدون أن أعطيكم ما هو أفضل من هذا‏؟‏ قالوا يا ربنا وأي شيء أفضل من هذا‏؟‏ فيقول الله تعالى‏:‏ «أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً»، هذا سياق الحديث، وقد يجيء مختلف الألفاظ والمعنى قريب بعضه من بعض، وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله بصير بالعباد‏}‏ وعد ووعيد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 17‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ‏(‏16‏)‏ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏الذين‏}‏ بدل من ‏{‏الذين اتقوا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 15‏]‏، فسر في هذه الآية أحوال المتقين الموعودين بالجنات، ويحتمل أن يكون إعراب قوله‏:‏ ‏{‏الذين‏}‏ في هذه الآية على القطع وإضمار الابتداء ويحتاج إلى القطع وإضمار فعل في قوله‏:‏ ‏{‏الصابرين‏}‏ والخفض في ذلك كله على البدل أوجه‏.‏ ويجوز في ‏{‏الذين‏}‏، وما بعده النصب على المدح‏؟‏ والصبر في هذه الآية معناه على الطاعات وعلى المعاصي والشهوات، والصدق معناه في الأقوال والأفعال، والقنوت، الطاعة والدعاء أيضاً وبكل يتصف المتقي، والإنفاق معناه في سبيل الله ومظان الأجر كالصلة للرحم وغيرها، ولا يختص هذا الإنفاق بالزكاة المفروضة، والاستغفار طلب المغفرة من الله تعالى، وخص تعالى السحر لما فسر النبي صلى الله عليه وسلم في قوله، ينزل ربنا عز وجل كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول، من يدعوني فأستجيب له‏؟‏ من يسألني فأعطيه‏؟‏ فلا يزال كذلك حتى يطلع الفجر‏.‏

وروي في تفسير قول يعقوب عليه السلام‏:‏ سوف أستغفر لكم ربي، أنه أخر الأمر إلى السحر، وروي إبراهيم بن حاطب عن أبيه قال‏:‏ سمعت رجلاً في السحر في ناحية المسجد يقول‏:‏ رب امرتني فأطعتك، وهذا سحر فاغفر لي، فنظرت فإذا ابن مسعود، وقال أنس بن مالك‏:‏ أمرنا أن نستغفر بالسحر سبعين استغفارة، وقال نافع‏:‏ كان ابن عمر يحيي الليل صلاة ثم يقول‏:‏ يا نافع آسحرنا‏؟‏ فأقول-لا- فيعاود الصلاة ثم يسأل، فإذا قلت نعم قعد يستغفر، فلفظ الآية إنما يعطي طلب المغفرة، وهكذا تأوله من ذكرناه من الصحابة، وقال قتادة‏:‏ المراد بالآية المصلون بالسحر، وقال زيد بن أسلم‏:‏ المراد بها الذين يصلون صلاة الصبح في جماعة وهذا كله يقترن به الاستغفار، والسحر والسحر، بفتح الحاء وسكونها آخر الليل، قال الزجاج وغيره‏:‏ هو قبل طلوع الفجر، وهذا صحيح لأن ما بعده الفجر هو من اليوم لا من الليلة، وقال بعض اللغوين‏:‏ السحر من ثلث الليل الآخر إلى الفجر‏.‏

قال الفقيه الإمام‏:‏ والحديث في التنزل هذه الآية في الاستغفار يؤيدان هذا، وقد يجيء في أشعار العرب ما يقتضي أن حكم السحر يستمر فيما بعد الفجر نحو قول امرئ القيس‏:‏ ‏[‏المتقارب‏]‏

يَعُلُّ بهِ بَرْدَ أنْيابِها *** إذا غَرَّدَ الطَّائِرُ المُسْتَحِرْ

يقال‏:‏ أسحر واستحر إذا دخل في السحر، وكذلك قولهم‏:‏ نسيم السحر، يقع لما بعد الفجر، وكذلك قول الشاعر‏:‏ ‏[‏ربيع بن زياد‏]‏

تجد النساء حواسراً يندبنه *** قد قمن قبل تبلج الأسحار

فقد قضى أن السحر يتبلج بطولع الفجر، ولكن حقيقة السحر في هذه الأحكام الشرعية من الاستغفار المحمود، ومن سحور الصائم، ومن يمين لو وقعت إنما هي من ثلث الليل الباقي إلى السحر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏18‏)‏‏}‏

أصل ‏{‏شهد‏}‏ في كلام العرب حضر، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن شهد منكم الشهر فليصمه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 185‏]‏ ثم صرفت الكلمة حتى قيل في أداء ما تقرر علمه في النفس بأي وجه تقرر من حضور أو غيره‏:‏ شهد يشهد فمعنى ‏{‏شهد الله‏}‏ أعلم عباده بهذا الأمر الحق وبينه، وقال أبو عبيدة‏:‏ ‏{‏شهد الله‏}‏ معناه، قضى الله وهذا مردود من جهات، وقرأ جميع القراء‏:‏ ‏{‏أنه لا إله‏}‏ بفتح الألف من ‏{‏أنه‏}‏ وبسكرها من قوله‏:‏ ‏{‏إن الدين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 19‏]‏ واستئناف الكلام، وقرأ الكسائي وحده «أن الدين» بفتح الألف، قال أبو علي‏:‏ «أن» بدل من ‏{‏أنه‏}‏ الأولى، وإن شئت جعلته من بدل الشيء من الشيء وهو هو، لأن الإسلام هو التوحيد والعدل، وإن شئت جعلته من بدل الاشتمال لأن الإسلام يشتمل على التوحيد والعدل، وإن شئت جعلت «إن الدين» بدلاً من القسط لأنه هو في المعنى، ووجه الطبري هذه القراءة، بأن قدر في الكلام، واو عطف ثم حذفت وهي مرادة كأنه قال‏:‏ ‏{‏وإن الدين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 19‏]‏ وهذا ضعيف، وقرأ عبد الله بن العباس‏:‏ «إنه لا إله إلا هو» بكسر الألف من «إنه»، وقرأ «أن الدين» بفتح الألف، فأعمل ‏{‏شهد‏}‏ في «أن الدين وجاء قوله‏:‏» إنه لا إله إلا هو «اعتراضاً جميلاً في نفس الكلام المتصل، وتأول السدي الآية على نحو قراءة ابن عباس فقال‏:‏ الله وملائكته والعلماء يشهدون‏:‏ ‏{‏إن الدين عند الله الإسلام‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 19‏]‏ وقرأ أبو المهلب عم محارب بن دثار،» شهداء الله «على وزن فعلاء، وبالإضافة إلى المكتوبة، قال أبو الفتح، هو نصب على الحال من الضمير في ‏{‏المستغفرين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 17‏]‏ وهو جمع شهيد أو جمع شاهد كعالم وعلماء، وروي عن أبي المهلب هذا أنه قرأ» شهدُ الله «برفع الشهداء، وروي عنه أنه قرأ» شُهُد «الله» على وزن- فُعُل- بضم الفاء والعين ونصب شهداء على الحال، وحكى النقاش أنه قرئ «شُهُد الله» بضم الشين والهاء، والإضافة إلىلمكتوبة قال‏:‏ فمنهم من نصب الدال ومنهم من رفعها، وأصوب هذه القراءات قراءة الجمهور، وإيقاع الشهادة على التوحيد، و‏{‏الملائكة وأولو العلم‏}‏ عطف على اسم الله تعالى، وعلى بعض ما ذكرناه من القراءات يجيء قوله‏:‏ ‏{‏والملائكة وأولو العلم‏}‏ ايتداء وخبره مقدر، كأنه قال‏:‏ ‏{‏والملائكة وأولو العلم‏}‏ يشهدون و‏{‏قائماً‏}‏ نصب على الحال من اسمه تعالى في قوله‏:‏ ‏{‏شهد الله‏}‏ أو من قوله ‏{‏إلا هو‏}‏ وقرأ ابن مسعود «القائم بالقسط» والقسط العدل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏19‏)‏‏}‏

قد تقدم ذكر اختلاف القراء في كسر الألف من ‏{‏إن الذين‏}‏ وفتحها، و‏{‏الدين‏}‏ في هذه الآية الطاعة والملة، والمعنى، أن الدين المقبول أو النافع أو المقرر، و‏{‏الإسلام‏}‏ في هذه الآية هو الإيمان والطاعة، قاله أبو العالية وعليه جمهور المتكلمين، وعبر عنه قتادة ومحمد بن جعفر بن الزبير بالإيمان‏.‏

قال أبو محمد رحمه الله‏:‏ ومرادهما، أنه من الأعمال، و‏{‏الإسلام‏}‏ هو الذي سأل عنه جبريل النبي عليه السلام حين جاء يعلم الناس دينهم الحديث وجواب النبي له في الإيمان الإسلام يفسر ذلك، وكذلك تفسيره قوله عليه السلام‏:‏ بني الإسلام على خمس، الحديث، وكل مؤمن بنبيه ملتزم لطاعات شرعه فهو داخل تحت هذه الصفة، وفي قراءة ابن مسعود «إن الدين عند الله للإسلام» باللام ثم أخبر تعالى عن اختلاف أهل الكتاب، أنه كان على علم منهم بالحقائق، وأنه كان بغياً وطلباً للدنيا، قاله ابن عمر وغيره‏.‏

و ‏{‏والذين أوتوا الكتاب‏}‏ لفظ يعم اليهود والنصارى، لكن الربيع بن أنس قال، المراد بهذه الآية اليهود، وذلك أن موسى عليه السلام، لما حضرته الوفاة، دعا سبعين حبراً من أحبار بني إسرائيل فاستودعهم التوراة، عند كل حبر جزء، واستخلف يوشع بن نون فلما مضت ثلاثة قرون، وقعت الفرقة بينهم، وقال محمد بن جعفر بن الزبير‏:‏ المراد بهذه الآية النصارى، وهي توبيخ لنصارى نجران، و‏{‏بغياً‏}‏ نصب على المفعول من أجله أو على الحال من ‏{‏الذين‏}‏ ثم توعد عز وجل الكفار، وسرعة الحساب يحتمل أن يراد بها سرعة مجيء القيامة والحساب إذ هي متيقنة الوقوع، فكل آت قريب ويحتمل أن يراد بسرعة الحساب أن الله تعالى بإحاطته بكل شيء علماً لا يحتاج إلى عد ولا فكرة، قاله مجاهد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏حاجوك‏}‏ فاعلوك من الحجة والضمير في ‏{‏حاجوك‏}‏ لليهود ولنصارى نجران والمعنى‏:‏ إن جادلوك وتعنتوا بالأقاويل المزورة، والمغالطات فاسند إلى ما كلفت من الإيمان والتبليغ وعلى الله نصرك، وقوله ‏{‏وجهي‏}‏ يحتمل أن يراد به المقصد كما تقول خرج فلان في وجه كذا فيكون معنى الآية‏:‏ جعلت مقصدي لله، ويحتمل أن يكون معنى الآية، أسلمت شخصي وذاتي وكليتي وجعلت ذلك لله، وعبر بالوجه إذ الوجه أشرف أعضاء الشخص وأجمعها للحواس، وقد قال حذاق المتكلمين في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويبقى وجه ربك‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 27‏]‏ أنها عبارة عن الذات، و‏{‏أسلمت‏}‏ في هذا الموضع بمعنى دفعت وأمضيت وليست بمعنى دخلت في السلم لأن تلك لا تتعدى، وقوله تعالى ‏{‏ومن اتبعن‏}‏ في موضع رفع عطف على الضمير في ‏{‏أسلمت‏}‏ ويجوز أن يكون مبتدأ أي ‏{‏ومن اتبعن‏}‏ أسلم وجهه، وقال بعضهم‏:‏ يحتمل أن يكون في موضع خفض عطفاً على اسم الله تعالى كأنه يقول‏:‏ جعلت مقصدي لله بالإيمان به والطاعة له، ولمن اتبعن بالحفظ له والتحفي بتعليمه وصحبته لك في ‏{‏اتبعن‏}‏ حذف الياء وإثباتها وحذفها أحسن اتباعاً لخط المصحف، وهذه النون إنما هي لتسليم فتحة لام الفعل فهي مع الكسرة تغني عن الياء لا سيما إذا كانت رأس آية، فإنها تشبه قوافي الشعر كما قال الأعشى‏:‏ ‏[‏المتقارب‏]‏

وَهَلْ يَمْنَعَنّ ارتياد البِلا *** دِ منْ حَذَرِ الْمَوت أنْ يَأْتِيَنْ

فمن ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ربي أكرمن‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 15‏]‏ فإذا لم تكن نون فإثبات الياء أحسن، لكنهم قد قالوا‏:‏ هذا غلام قد جاء فاكتفوا بالكسرة دلاله على الياء، و‏{‏الذين أوتوا الكتاب‏}‏ في هذا الموضع يجمع اليهود والنصارى باتفاق، والأميون هم الذين لا يكتبون وهم العرب في هذه الآية، وهذه النسبة هي إلى الأم أو إلى الأمة أي كما هي الأم، أو على حال خروج الإنسان عن الأم أو على حال الأمة الساذجة قبل التعلم والتحذق، وقوله‏:‏ ‏{‏أأسلمتم‏}‏ تقرير في ضمنه الأمر كذا قال الطبري وغيره، وذلك بين، وقال الزجاج ‏{‏أأسلمتم‏}‏ تهديد، وهذا حسن، لأن المعنى أأسلمتم أم لا‏؟‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقد اهتدوا‏}‏ وجاءت العبارة بالماضي مبالغة في الإخبار بوقوع الهدى لهم وتحصله‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإنما عليك البلاغ‏}‏ ذكر بعض الناس أنها آية موادعة وأنها مما نسخته آية السيف‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا يحتاج أن يقترن به معرفة تاريخ نزولها، وأما على ظاهر نزول هذه الآية في وقت وفد نجران فإنما المعنى ‏{‏فإنما عليك البلاغ‏}‏ بما فيه قتال وغيره، و‏{‏البلاغ‏}‏ مصدر بلغ بتخفيف عين الفعل، وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله بصير بالعباد‏}‏ وعد للمؤمنين ووعيد للكافرين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 22‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏21‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

قال محمد بن جعفر بن الزبير وغيره‏:‏ إن هذه الآية في اليهود والنصارى‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ وتعم كل من كان بهذه لحال، والآية توبيخ للمعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم بمساوئ أسلافهم وببقائهم أنفسهم على فعل ما أمكنهم من تلك المساوئ لأنهم كانوا حرصى على قتل محمد عليه السلام، وروي أن بني إسرائيل قتلوا في يوم واحد سبعين نبياً وقامت سوق البقل بعد ذلك، وروى أبو عبيدة بن الجراح عن النبي عليه السلام‏:‏ أنهم قتلوا ثلاثة وأربعين نبياً فاجتمع من خيارهم وأحبارهم مائة وعشرون ليغيروا وينكروا فقتلوا أجمعين كل ذلك في يوم واحد وذلك معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويقتلون الذين يأمرون بالقسط‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بغير حق‏}‏ مبالغة في التحرير للذنب إذ في الإمكان أن يقتضي ذلك أمر الله تعالى بوجه ما من تكرمة نبي أوغير ذلك، وعلى هذا المعنى تجيء أفعل من كذا إذا كان فيها شياع مثل أحب وخير وأفضل ونحوه مقولة من شيئين ظاهرهما الاشتراك بينهما‏.‏

وقرأ جمهور الناس‏:‏ «ويقتلون الذين» وقرأ حمزة وجماعة من غير السبعة «ويقاتلون الذين» وفي مصحف ابن مسعود «وقاتلوا الذين»، وقرأها الأعمش، وكلها متوجهة وأبينها قراءة الجمهور، والقسط العدل، وجاءت البشارة بالعذاب من حيث نص عليه وإذا جاءت البشارة مطلقة فمجملها فيما يستحسن، ودخلت الفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فبشرهم‏}‏ لما في الذي من معنى الشرط في هذا الموضع فذلك بمنزلة قولك‏:‏ الذي يفعل كذا فله إذا أردت أن ذلك إنما يكون له بسبب فعله الشيء الآخر فيكون الفعل في صلتها وتكون بحيث لم يدخل عليها عامل يغير معناها كليت ولعل، وهذا المعنى نص في كتاب سيبويه في باب ترجمة هذا باب الحروف التي تتنزل منزلة الأمر والنهي لأن فيها معنى الأمر والنهي، و‏{‏حبطت‏}‏ معناه بطلت وسقط حكمها، وحبطها في الدنيا بقاء الذم واللعنة عليهم، وحبطها في الآخرة كونها هباء منبثاً وتعذيبهم عليها، وقرأ ابن عباس وأبو السمال العدوي‏:‏ «حبَطت» فتح الباء وهي لغة، ثم نفى النصر عنهم في كلا الحالين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 25‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏23‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏24‏)‏ فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

قال ابن عباس‏:‏ نزلت هذه الآية بسبب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل بيت المدراس على جماعة من يهود فدعاهم إلى الله فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زيد‏:‏ على أي دين أنت يا محمد‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أنا على ملة إبراهيم» فقالا‏:‏ فإن إبراهيم كان يهودياً، فقال لهما النبي عليه السلام‏:‏ «فهلموا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم» فأبيا عليه فنزلت، وذكر النقاش‏:‏ أنها نزلت لأن جماعة من اليهود أنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ فقال لهم النبي عليه السلام‏:‏ «هلموا إلى التوراة ففيها صفتي» فأبوا‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فالكتاب في قوله‏:‏ ‏{‏من الكتاب‏}‏ هو اسم الجنس، و‏{‏الكتاب‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏إلى كتاب الله‏}‏ هو التوراة، وقال قتادة وابن جريج‏:‏ ‏{‏الكتاب‏}‏ في قوله ‏{‏إلى كتاب الله‏}‏ هو القرآن، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم إليه فكانوا يعرضون، ورجح الطبري القول الأول، وقال مكي‏:‏ الكتاب الأول اللوح المحفوظ والثاني التوراة، وقرأ جمهور الناس «ليَحكم» بفتح الياء أي ليحكم الكتاب، وقرأ الحسن وأبو جعفر وعاصم الجحدري «ليُحكم» بضم الياء وبناء الفعل للمفعول، وخص الله تعالى بالتولي فريقاً دون الكل لأن منهم من لم يتول كابن سلام وغيره، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك بأنهم‏}‏ الإشارة فيه إلى التولي والإعراض، أي إنما تولوا وأعرضوا لاغترارهم بهذه الأقوال والافتراء الذي لهم في قولهم‏:‏ ‏{‏نحن أبناء الله وأحباؤه‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 18‏]‏ إلى غير ذلك من هذا المعنى، وكان من قول بني إسرائيل‏:‏ إنهم لن تمسهم النار إلا أربعين يوماً عدد الأيام التي عبدوا فيها العجل، قاله الربيع وقتادة، وحكى الطبري أنهم قالوا‏:‏ إن الله وعد أباهم يعقوب أن لا يدخل أحداً من ولده النار إلا تحله القسم، وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لليهود‏:‏ من أول من يدخل النار‏؟‏ فقالوا نحن فترة يسيرة ثم تخلفوننا فيها فقال‏:‏ كذبتم الحديث بطوله، و‏{‏يفترون‏}‏ معناه، يشققون ويختلقون من الأحاديث في مدح دينهم وأنفسهم وادعاء الفضائل لها، ثم قال تعالى خطاباً لمحمد وأمته على جهة التوقيف والتعجيب فكيف حال هؤلاء المغترين بالأباطيل إذا حشروا يوما القيامة واضمحلت تلك الزخارف التي ادعوها في الدنيا وجوزوا بما اكتسبوه من كفرهم وأعمالهم القبيحة‏؟‏ قال النقاش‏:‏ واليوم الوقت، وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏في ستة أيام‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 54‏]‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 4‏]‏ إنما هي عبارة عن أوقات فإنها الأيام والليالي والصحيح في يوم القيامة أنه يوم لأن قبله ليلة وفيه شمس، واللام في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليوم‏}‏ طالبة لمحذوف، قال الطبري تقديره لما يحدث في يوم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 27‏]‏

‏{‏قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏26‏)‏ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ‏(‏27‏)‏‏}‏

قال بعض العلماء‏:‏ إن هذه الآية لباطل نصارى نجران في قولهم‏:‏ إن عيسى هو الله وذلك أن هذه الأوصاف تبين لكل صحيح الفطرة أن عيسى عليه السلام ليس في شيء منها، وقال قتادة‏:‏ ذكر لنا أن النبي عليه السلام سأل ربه أن يجعل في أمته ملك فارس والروم فنزلت الآية في ذلك‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏الملك‏}‏ في هذه الآية النبوة، والصحيح أنه ‏{‏مالك الملك‏}‏ كله مطلقاً في جميع أنواعه، وأشرف ملك يؤتيه سعادة الآخرة وروي أن الآية نزلت بسبب أن النبى عليه السلام بشّر أمته بفتح ملك فارس وغيره فقالت اليهود والمنافقون‏:‏ هيهات وكذبوا ذلك، واختلف النحويون في تركيب لفظة ‏{‏اللهم‏}‏ بعد إجماعهم على أنها مضمومة الهاء مشددة الميم المفتوحة وأنها منادى، ودليل ذلك أنها لا تأتي مستعملة في معنى خبر، فمذهب الخليل وسيبويه والبصريين، أن الأصل «يالله» فلما استعملت الكلمة دون حرف النداء الذي هو- يا- جعلوا بدل حرف النداء هذه الميم المشددة، والضمة في الهاء هي ضمة الاسم المنادى المفرد، وذهب حرفان فعوض بحرفين، ومذهب الفراء والكوفيين، أن أصل ‏{‏اللهم‏}‏ يا لله أم‏:‏ أي أم بخير وأن ضمة الهاء ضمة الهمزة التي كانت في أم نقلت، ورد الزجاج على هذا القول وقال‏:‏ محال أن يترك الضم الذي هو دليل على نداء المفرد وأن تجعل في اسم الله ضمة أم، هذا إلحاد في اسم الله تعالى‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا غلو من الزجاج، وقال أيضاً‏:‏ إن هذا الهمز الذي يطرح في الكلام فشأنه أن يؤتى به أحياناً قالوا‏:‏ «ويلمه» في ويل أمه والأكثر إثبات الهمزة، وما سمع قط «يالله أم» في هذا اللفظ، وقال أيضاً‏:‏ ولا تقول العرب «ياللهم»، وقال الكوفيون‏:‏ إنه قد يدخل حرف النداء على ‏{‏اللهم‏}‏ وأنشدوا على ذلك‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏

وما عليك أن تقولي كلما *** سبحت أو هللت ياللهم ما

اردُدْ عَلَيْنَا شَيْخَنَا مُسَلَّما *** قالوا‏:‏ فلو كانت الميم عوضاً من حرف النداء لما اجتمعا، قال الزجاج، وهذا شاذ لا يعرف قائله ولا يترك له ما في كتاب الله وفي جميع ديوان العرب، قال الكوفيون‏:‏ وإنما تزاد الميم مخففة في «فم وابنم» ونحوه فأما ميم مشددة فلا تزاد، قال البصريون‏:‏ لما ذهب حرفان عوض بحرفين، ومالك نصب على النداء، نص سيبويه ذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل اللهم فاطر السماوات والأرض‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 46‏]‏ وقال‏:‏ إن ‏{‏اللهم‏}‏ لا يوصف لأنه قد ضمت إليه الميم، قال الزجاج‏:‏ ومالك عندي صفة لاسم الله تعالى وكذلك ‏{‏فاطر السموات‏}‏ قال أبو علي‏:‏ وهو مذهب أبي العباس، وما قال سيبويه أصوب وذلك أنه ليس في الأسماء الموصوفة شيء على حد ‏{‏اللهم‏}‏ لأنه اسم مفرد ضم إليه صوت والأصوات لا توصف نحو، غاق وما أشبهه، وكأن حكم الاسم المفرد أن لا يوصف وإن كانوا قد وصفوه في مواضع فلما ضم هنا ما لا يوصف إلى ما كان قياسه أن لا يوصف صار بمنزلة صوت ضم إلى صوت نحو، «حيهل» فلم يوصف، قال النضر بن شميل‏:‏ من قال ‏{‏اللهم‏}‏ فقد دعا الله بجميع أسمائه كلها، وقال الحسن‏:‏ ‏{‏اللهم‏}‏ مجمع الدعاء‏.‏

وخص الله تعالى‏:‏ ‏{‏الخير‏}‏ بالذكر وهو تعالى بيده كل شيء، إذ الآية في معنى دعاء ورغبة فكأن المعنى ‏{‏بيدك الخير‏}‏ فأجزل حظي منه، وقيل المراد ‏{‏بيدك الخير‏}‏ والشر فحذف لدلالة أحدهما على الآخر، كما قال ‏{‏تقيكم الحر‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 81‏]‏ قال النقاش‏:‏ ‏{‏بيدك الخير‏}‏ أي النصر والغنيمة فحذف لدلالة أحدهما‏:‏ وقال ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة والسدي وابن زيد في معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تولج الليل في النهار‏}‏ الآية‏:‏ أنه ما ينتقص من النهار فيزيد في الليل وما ينتقص من الليل فيزيد في النهار دأباً كل فصل من السنة، وتحتمل ألفاظ الآية أن يدخل فيها تعاقب الليل والنهار كأن زوال أحدهما ولوج في الآخر‏.‏

واختلف المفسرون في معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتخرج الحي من الميت‏}‏ الآية، فقال الحسن‏:‏ معناه تخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن، وروي نحوه عن سلمان الفارسي، وروى الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على بعض أزواجه فإذا بامرأة حسنة النغمة فقال‏:‏ من هذه‏؟‏ قالت أحدى خالاتك فقال‏:‏ إن خالاتي بهذه البلدة لغرائب، أي خالاتي هي‏؟‏ قالت‏:‏ خالدة بنت الأسود بن عبد يغوث فقال النبي عليه السلام‏:‏ سبحان الذي يخرج الحي من الميت، وكانت امرأة صالحة وكان أبوها كافراً وهو أحد المستهزئين الذين كفيهم النبي عليه السلام‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فالمراد على هذا القول موت قلب الكافر وحياة قلب المؤمن والحياة والموت مستعاران، وذهب جمهور كثير من العلماء إلى أن الحياة والموت في الآية إنما هو الحياة حقيقة والموت حقيقة لا باستعارة، ثم اختلفوا في المثل التي فسروا بها فقال عكرمة‏:‏ هو إخراج الدجاجة وهي حية من البيضة وهي ميتة وإخراج البيضة وهي ميتة من الدجاجة وهي حية ولفظ الإخراج في هذا المثال وما ناسبه لفظ متمكن على عرف استعماله، وقال عبد الله بن مسعود في تفسير الآية‏:‏ هي النطفة تخرج من الرجل وهي ميتة وهو حي ويخرج الرجل منها وهي ميتة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ولفظ الإخراج في تنقل النطفة حتى تكون رجلاً إنما هو عبارة عن تغير الحال كما تقول في صبي جيد البنية‏:‏ يخرج من هذا رجل قوي، وهذا المعنى يسميه ابن جني‏:‏ التجريد أي تجرد الشيء من حال إلى حال هو خروج، وقد يحتمل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويخرج الميت من الحي‏}‏ أن يراد به أن الحيوان كله يميته فهذا هو معنى التجريد بعينه وأنشد ابن جني على ذلك‏:‏

أَفَاءَتْ بَنُوا مَرْوانَ ظُلْماً دِمَاءَناَ *** وفي اللَّهِ-إنْ لَمْ يُنْصِفُوا- حَكَمٌ عَدْلُ

وروى السدي عن أبي مالك قال في تفسير الآية‏:‏ هي الحبة تخرج من السنبلة والسنبلة تخرج من الحبة، والنواة تخرج من النخلة والنخلة تخرج من النواة والحياة في النخلة والسنبلة تشبيه، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بغير حساب‏}‏ قيل معناه بغير حساب منك لأنه تعالى لا يخاف أن تنتقص خزائنه، هذا قول الربيع وغيره، وقيل معنى ‏{‏بغير حساب‏}‏ أي من أحد لك، لأنه تعالى لا معقب لأمره، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر‏:‏ الميْت «بسكون الياء في جميع القرآن، وروى حفص عن عاصم» من الميّت «بتشديد الياء، وقرأ نافع وحمزة والكسائي» الميّت «بتشديد الياء في هذه الآية، وفي قوله‏:‏ ‏{‏لبلد ميت‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 57‏]‏، و‏{‏إلى بلد ميت‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 9‏]‏ وخفف حمزة والكسائي غير هذه الحروف، قال أبو علي‏:‏ ‏{‏الميت‏}‏ هو الأصل والواو التي هي عين منه انقلبت ياء لإدغام الياء فيها وميت التخفيف محذوف منه عينه أعلت بالحذف كما أعلت بالقلب، والحذف حسن والإتمام حسن وما مات وما لم يمت في هذا الباب يستويان في الاستعمال‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ وذهب قوم إلى أن» الميْت «بالتخفيف إنما يستعمل فيما قد مات، وأما» الميّت «بالتشديد فيستعمل فيما مات وفيما لم يمت بعد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ‏(‏28‏)‏‏}‏

هذا النهي عن الاتخاذ إنما هو فيما يظهره المرء فأما أن يتخذه بقلبه ونيته فلا يفعل ذلك مؤمن، والمنهيون هنا قد قرر لهم الإيمان، فالنهي إنما هو عبارة عن إظهار اللطف للكافر والميل إليهم، ولفظ الآية عام في جميع الأعصار، واختلف الناس في سبب هذه الآية، فقال ابن عباس‏:‏ كان كعب بن الأشرف وابن أبي الحقيق وقيس بن زيد قد بطنوا بنفر من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم، فقال رفاعة بن المنذر بن زبير وعبد الله بن جبير وسعد بن خيثمة لأولئك النفر اجتنبوا هؤلاء اليهود واحذروا مباطنتهم فأبى أولئك النفر إلا موالاة اليهود فنزلت الآية في ذلك، وقال قوم‏:‏ نزلت الآية في قصة حاطب بن أبي بلتعة وكتابه إلى أهل مكة، والآية عامة في جميع هذا ويدخل فيها فعل أبي لبابة في إشارته إلى حلقه حين بعثه النبي عليه السلام في استنزال بني قريظة، وأما تعذيب بني المغيرة لعمار فنزل فيما أباح النبي عليه السلام لعمار ‏{‏إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 106‏]‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏من دون‏}‏ عبارة عن كون الشيء الذي تضاف إليه ‏{‏دون‏}‏ غائباً متنحياً ليس من الأمر الأول ‏{‏في شيء‏}‏، وفي المثل، وأمر دون عبيدة الوذم كأنه من غير أن ينتهي إلى الشيء الذي تضاف إليه، ورتبها الزجاج المضادة للشرف من الشيء الدون فيما قاله نظر، قوله‏:‏ ‏{‏فليس من الله في شيء‏}‏ معناه، في شيء مرضي على الكمال والصواب، وهذا كما قال النبي عليه السلام من غشنا فليس منا، وفي الكلام حذف مضاف تقديره، فليس من التقرب إلى الله أو التزلف ونحو هذا، وقوله ‏{‏في شيء‏}‏ هو في موضع نصب على الحال من الضمير الذي في قوله ‏{‏ليس من الله‏}‏ ثم أباح الله إظهار اتخاذهم بشرط الأتقاء، فأما إباطانه فلا يصح أن يتصف به مؤمن في حال، وقرأ جمهور الناس «تقاة» أصله وقية-على وزن فعلة- بضم الفاء وفتح العين أبدلوا من الواو تاء كتجاة وتكأة فصار تقية ثم قلبت الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها فجاء ‏{‏تقاة‏}‏ قال أبو علي يجوز أن تكون ‏{‏تقاة‏}‏ مثل رماة حالاً من ‏{‏تتقوا‏}‏ وهو جمع فاعل وإن كان لم يستعمل منه فاعل، ويجوز أن يكون جمع تقى وجعل فعيل بمنزلة فاعل، وقرأ ابن عباس والحسن وحميد بن قيس ويعقوب الحضرمي ومجاهد وقتادة والضحاك وأبو رجاء والجحدري وأبو حيوة «تقية» بفتح التاء وشد الياء على وزن فعيلة وكذلك روى المفضل عن عاصم وأمال الكسائي القاف في ‏{‏تقاة‏}‏ في الموضعين، وأمال حمزة في هذه الآية ولم يمل في قوله‏:‏ ‏{‏حق تقاته‏}‏

‏[‏آل عمران‏:‏ 102‏]‏ وفتح سائر القراء القاف إلا أن نافعاً كان يقرأها بين الفتح والكسر، وذهب قتادة إلى أن معنى الآية‏:‏ ‏{‏إلا أن تتقوا منهم تقاة‏}‏ من جهة صلة الرحم أي ملامة، فكأن الآية عنده مبيحة الإحسان إلى القرآبة من الكفار، وذهب جمهور المفسرين إلى أن معنى الآية، إلا أن تخافوا منهم خوفاً وهذا هو معنى التقية‏.‏

واختلف العلماء في التقية ممن تكون‏؟‏ وبأي شيء تكون‏؟‏ وأي شيء تبيح‏؟‏ فأما الذي تكون منه التقية فكل قادر غالب مكره يخاف منه، فيدخل في ذلك الكفار إذا غلبوا وجورة الرؤساء والسلابة وأهل الجاه في الحواضر، قال مالك رحمه الله‏:‏ وزوج المرأة قد يكره، وأما بأي شيء تكون التقية ويترتب حكمها فذلك بخوف القتل وبالخوف على الجوارح وبالضرب بالسوط وبسائر التعذيب، فإذا فعل بالإنسان شيء من هذا أو خافه خوفاً متمكناً فهو مكره وله حكم التقية، والسجن إكراه والتقييد إكراه والتهديد والوعيد إكراه وعداوة أهل الجاه الجورة تقية، وهذه كلها بحسب حال المكره وبحسب الشيء الذي يكره عليه، فكم من الناس ليس السجن فيهم بإكراه، وكذلك الرجل العظيم يكره بالسجن والضرب غير المتلف ليكفر فهذا لا تتصور تقيته من جهة عظم الشيء الذي طلب منه، ومسائل الإكراه هي من النوع الذي يدخله فقه الحال، وأما أي شيء تبيح فاتفق العلماء على إباحتها للأقوال باللسان من الكفر وما دونه ومن بيع وهبة وطلاق، وإطلاق القول بهذا كله، ومن مداراة ومصانعة، وقال ابن مسعود‏:‏ ما من كلام يدرأ عني سوطين من ذي سلطان، إلا كنت متكلماً به‏.‏ واختلف الناس في الأفعال، فقال جماعة من أهل العلم منهم الحسن ومكحول ومسروق‏:‏ يفعل المكره كل ما حمل عليه مما حرم الله فعله وينجي نفسه بذلك، وقال مسروق‏:‏ فإن لم يفعل حتى مات دخل النار، وقال كثير من أهل العلم منهم سحنون‏:‏ بل إن لم يفعل حتى مات فهو مأجور وتركه ذلك المباح أفضل من استعماله، وروي أن عمر بن الخطاب قال في رجل يقال له، نهيت بن الحارث، أخذته الفرس أسيراً، فعرض عليه شرب الخمر وأكل الخنزير وهدد بالنار، فلم يفعل فقذفوه فيها فبلغ ذلك عمر، فقال‏:‏ واما كان عليّ نهيت أن يأكل، وقال جمع كثير من العلماء التقية إنما هي مبيحة للأقوال، فأما الأفعال فلا، روي ذلك عن ابن عباس والربيع والضحاك، وروي ذلك عن سحنون وقال الحسن في الرجل يقال له‏:‏ اسجد لصنم وإلا قتلناك، قال، إن كان الصنم مقابل القبلة فليسجد يجعل نيته لله، فإن كان إلى غير القبلة فلا وإن قتلوه، قال ابن حبيب‏:‏ وهذا قول حسن‏.‏

قال القاضي‏:‏ وما يمنعه أن يجعل نيته لله وإن كان لغير قبله، وفي كتاب الله ‏{‏فأين ما تولوا فثم وجه الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 115‏]‏ وفي الشرع إباحة التنفل للمسافر إلى غير القبلة، هذه قواعد مسألة التقية، وأما تشعب مسائلها فكثير لا يقتضي الإيجاز جمعه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويحذركم الله‏}‏ إلى آخر الآية وعيد وتنبيه ووعظ وتذكير بالآخرة، وقوله‏:‏ ‏{‏نفسه‏}‏ نائبه عن إياه، وهذه مخاطبة على معهود ما يفهمه البشر، والنفس في مثل هذا راجع إلى الذات، وفي الكلام حذف مضاف لأن التحذير إنما هو من عقاب وتنكيل ونحوه، فقال ابن عباس والحسن، ويحذركم الله عقابه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 30‏]‏

‏{‏قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏29‏)‏ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ‏(‏30‏)‏‏}‏

الضمير في ‏{‏تخفوا‏}‏ هو للمؤمنين الذين نهوا عن اتخاذ الكافرين أولياء، والمعنى أنكم إن أبطنتم الحرص على إظهار موالاتهم فإن الله يعمل ذلك ويكرهه منكم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويعلم ما في السموات وما في الأرض‏}‏، معناه على التفصيل، وقوله ‏{‏على كل شيء قدير‏}‏ عموم والشيء في كلام العرب الموجود‏.‏

و ‏{‏ويوم‏}‏ نصب على الظرف، وقد اختلف في العامل فيه، فقال مكي بن أبي طالب، العامل فيه ‏{‏قدير‏}‏، وقال الطبري‏:‏ العامل فيه قوله‏:‏ ‏{‏وإلى الله المصير‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 28‏]‏ وقال الزجّاج، وقال أيضاً العامل فيه ‏{‏ويحذركم الله نفسه‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 28‏]‏ يوم ورجحه وقال مكي‏:‏ حكاية العامل فيه فعل مضمر تقديره، «اذكر يوم»، و‏{‏ما‏}‏ بمعنى الذي و‏{‏محضراً‏}‏ قال قتادة‏:‏ معناه موفراً، وهذا تفسر بالمعنى، والحضور أبين من أن يفسر بلفظ آخر، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ماعملت من سوء‏}‏ يحتمل أن تكون ‏{‏ما‏}‏ معطوفة على ‏{‏ما‏}‏ الأولى فهي في موضع نصب وتكون ‏{‏تود‏}‏ في موضع الحال، وإلى هذا العطف ذهب الطبري وغيره، ويحتمل أن تكون رفعاً بالابتداء ويكون الخبر في قوله‏:‏ ‏{‏تود‏}‏ وما بعده كأنه قال‏:‏ وعملها السيئ مردود عندها أن بينها وبينه أمداً، وفي قراءة ابن مسعود «من سوء ودت» وكذلك قرأ ابن أبي عبلة، ويجوز على هذه القراءة أن تكون ‏{‏ما‏}‏ شرطية ولا يجوز ذلك على قراءة «تود» لأن الفعل مستقبل مرفوع والشرط يقتضي جزمه اللهم إلى أن يقدر في الكلام محذوف «فهي تود» وفي ذلك ضعف، و«الأمد» الغاية المحدودة من المكان أو الزمان، قال النابغة‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

سَبْق الْجَوادِ إذَا اسْتَوْلَى عَلَى الأمَدِ *** فهذه غاية في المكان، وقال الطرماح‏:‏ ‏[‏الخفيف‏]‏

كُلُّ حيّ مُسْتَكْمِلٌ عُدَّةَ الْعُمْ *** رِ وَمُودٍ إذا انقضَى أَمَدُهْ

فهذه غاية في الزمان، وقال الحسن في تفسير هذه الآية، يسر أحدهم أن لا يلقى عمله ذلك أبداً ذلك مناه، وأما في الدنيا فقد كانت خطيئته يستلذها، وقوله‏:‏ ‏{‏والله رؤوف بالعباد‏}‏ يحتمل أن يكون إشارة إلى التحذير لأن تحذيره وتنبيهه على النجاة رأفة منه بعباده، ويحتمل أن يكون ابتداء إعلام بهذه الصفة فمقتضى ذلك التأنيس لئلا يفرط الوعيد على نفس مؤمن، وتجيء الآية على نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن ربك لشديد العقاب، وإنه لغفور رحيم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 167‏]‏ لأن قوله‏:‏ ‏{‏ويحذركم الله نفسه‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 28‏]‏ والله محذورالعقاب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 32‏]‏

‏{‏قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏31‏)‏ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

اختلف المفسرون فيمن أمر محمداً عليه السلام أن يقول له هذه المقالة، فقال الحسن بن أبي الحسن وابن جريج‏:‏ إن قوماً قالوا للنبي عليه السلام‏:‏ يا محمد إنا نحب ربنا، فنزلت هذه الآية في قولهم، جعل الله فيها أتباع محمد علماً لحبه، وقال محمد بن جعفر بن الزبير‏:‏ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول هذا القول لنصارى نجران، أي إن كان قولكم في عيسى وغلوكم في أمره حباً لله، ‏{‏فاتبعوني‏}‏ ويحتمل أن تكون الآية عامة لأهل الكتاب اليهود والنصارى لأنهم كانوا يدعون أنهم يحبون الله ويحبهم، ألا ترى أن جميعهم قالوا ‏{‏نحن أبناء الله وأحباؤه‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 18‏]‏ ولفظ أحباؤه إنما يعطي أن الله يحبهم لكن يعلم أن مرادهم «ومحبوه» فيحسن أن يقال لهم ‏{‏قل إن كنتم تحبون الله‏}‏ وقرأ الزهري «فاتبعوني» بتشديد النون، وقرأ أبو رجاء «يحببكم» بفتح الياء وضم الباء الأولى من «حب» وهي لغة، قال الزجاج‏:‏ حببت قليلة في اللغة، وزعم الكسائي أنها لغة قد ماتت وعليها استعمل محبوب والمحبة إرادة يقترن بها إقبال من النفس وميل بالمعتقد، وقد تكون الإرادة المجردة فيما يكره المريد والله تعالى يريد وقوع الكفر ولا يحبه، ومحبة العبد لله تعالى يلزم عنها ولا بد أن يطيعه وتكون أعماله بحسب إقبال النفس، وقد تمثل بعض العلماء حين رأى الكعبة فأنشد‏:‏ ‏[‏الخفيف‏]‏

هذِهِ دارُهُ وأَنْتَ مُحِبٌّ *** مَا بَقَاءُ الدُّموعِ في الآمَاقِ

ومحبة الله للعبد أمارتها للمتأمل أن يرى العبد مهدياً مسدداً ذا قبول في الأرض، فلطف الله بالعبد ورحمته إياه هي ثمرة محبته، وبهذا النظر يتفسر لفظ المحبة حيث وقعت من كتاب الله عز وجل، وذكر الزجاج‏:‏ أن أبا عمرو قرأ «يغفر لكم» بإدغام الراء في اللام وخطأ القراء وغلط من رواها عن أبي عمرو فيما حسبت، وذهب الطبري إلى أن قوله‏:‏ ‏{‏قل أطيعوا الله والرسول‏}‏ خطاب لنصارى نجران وفي قوله‏:‏ ‏{‏فإن الله لا يحب الكافرين‏}‏ وعيد، ويحتمل أن يكون بعد الصدع بالقتال‏.‏